خفقان أجنحة في القفص / قراءة في (سجنيات) للقاص عمر الككلي *
2009-09-27
نصوص سردية تستعير كثافة نثرها من خبرة القصة القصيرة التي تعامل معها الككلي بحرفية عالية ودقة في بناء عوالمها ، تملك من ملامح القصة الكثير ، لكن هروبه من تجنيسها ، ربما يعكس حالة هروب في اللاوعي من فكرة القالب التي أقصى ما يمثلها السجن ، وهي بمعنى آخر مجموعة قصص مطلوق سراحها ، تكشف عن وقائع ومكنونات بشكل حسي ملموس ، واستكناه حصيف لأحداث تحفر بهدوئها المدبب في طبقات المحنة الإنسانية وعمق أسئلتها الوجودية، وتطرح أسئلة قاسية حول مصير هذا الكائن على أرض واسعة يهيأ فيها الكثير من زوايا الاختناق .
وبغض النظر عن كل مداورة يائسة حول التجنيس سنتفق مبدئياً على أنها نص سردي يجسد التواجه بين اللغة ومحمولها أحد تقنياته المحفزة ، إذا ما اعتبرنا أن مستويات السرد التقليدية ، وبشكل مفارق ، كانت مفروضة على لحمة هذا السرد ، فآلة القمع هي التي اختارت مكان وزمان وشخوص هذا العمل ؛ المكان سجن تصطدم النظرات بجدرانه مراراً ، والزمان عقد من السنين يمتد في هذا الحيز الضيق ، والشخوص لم تجلبهم إلى العمل حبكة درامية اقترحها السارد ، لكنهم شخوص جمعتهم إرادة سرد أقوى داخل مكان "مثقل ببشاعة الواقع" بكل مشاربهم وباختلاف قدراتهم على توجيه الحدث ، أو على انتحال أساليب المقاومة داخل هذا العالم المسرود بقسوة ،والذي ألف العبث ـ كاستعارة كلية ـ بين تقنياته ومستويات سرده .
**** **** **** ****
ليس هذا العمل مجموعة قصص ، ولا رواية ، ولا سيرة ، لكنه كل ذلك .. إنه حبكة القهر التي يغوص فيها الككلي بكل مؤونته الأدبية ، ليلتقط من رعيفها الملحمي مواقع الكثافة ؛ كثافة الروح أو كثافة الدلالة أو كثافة السخرية ، ولأن الحبكة كانت شديدة القسوة ، يبدو انه كان لابد للسارد أن يبتعد عنها فترة زمنية كافية ، كي يتسنى له الإصغاء من جديد لأنينها ، ومن ثم التلصص "الجمالي" على أكثر الوقائع بشاعة ومرحاً في الوقت نفسه !!
البشاعة والمرح ثنائية صادمة تقترحها رومانتيكية ساذجة تعمل في غير وقتها ، وحتى لا أتورط في لعبة اختيار أسهل المداخل لمثل هذا التناول عبر صراع الثنائيات الذي يستهوي الكتابات المتحذلقة ، سأحاول أن أنقل هذا اللعب إلى حقل التضاد بين البشاعة والمرح ، تضاد شبه مستحيل لا يمكن أن يمسك بتلابيبه سوى سجين وجد نفسه فجأة في قلب العبث في مكان لا يعرف لماذا ولج إليه ولا يعرف متى سيخرج منه .
وحتى لا يقف التضاد عند مفهومه المثنوي المتعسف ، سأحاول أن ألمس تلك المناطق المتدرجة الظلال داخل تداعياته اللاحقة ؛ المتعدد الأضواء بين العتمة المطلقة والضوء الصارخ .. المتعددة الاستعارات بين الألم والتهكم .. المتعددة أشكال العذاب بين السجان والسجين .. المتعددة الطيف بين اليأس والممكن ، بين القنوط والأمل ، بين الحضور والغياب … تضاد يتوتر في تلك المسافة المقترحة بين "الحذاء والعشب الطالع من شقوق البلاط" كمسافة لتنهد الحياة تشبه تلك المسافة الملتبسة بين الجلاد والضحية ، تبعد وتقترب ، يتدرج فيها المقت المتبادل والشفقة المتبادلة في لعبة غير ممتعة تفرضها الجدران المحيطة بالجميع وذاك الزمن المجتزأ من الحياة ككتلة دون ملامح أو تضاريس .. ، ومسافات من هذا القبيل تشابه الفضاء المجازي بين "لون الكفن ولون فستان العروس" .
إنه بمراوغة أخرى تضاد لا يرتهن للنقائض بقدر ما يحتكم لحالة أسطورية من التآكل المتبادل بين صلابتين ، "بين المرفق وقاعدة النافذة الإسمنتية" ، تواجه صامت وصبور بين اللحم والإسمنت ، لكن المفارق أن اللحم الغض هو الذي سينمو بكلكله ليترك أثره حفرةً من العناد في جبروت الإسمنت الصلد ، وهذا الحفر الأسطوري البطيء سوف يشكل ثيمة هذا الكتاب ، حيث مقارعة القسوة بالحيل الإنسانية المنفلتة عن خفقان الأجنحة في القفص … ومواجهة القوة بإدارة العجز ، والصفعة بالضحك ، والقيظ "بمراوح الملاءة البيضاء" ، والأهم من ذلك هذا الحس التهكمي في أكثر حالات الإنسان قهراً، التهكم حين يكون طاقة كامنة تستثار من أجل الذود عن الروح ومجابهة تخريب الذات في مكان لا يترك لك ملاذا للهروب من القبضة المتورمة سوى "بين لسانين من اللهب" .
**** **** **** ****
سرد "لحمته جماليات الكتابة القصصية" لا يقوده ترتيب زمني ، ربما لأن الزمن في السجن وقت نفسي ، كتلة زمنية مقتطعة من العمر لا يمكن أن ترسم زمناً خطياً ، حيث تشابه الأيام والوجوه والمحيط تحيل الزمن إلى دائرة ، كل نقطة على محيطها من الممكن أن تكون بداية أو نهاية .
سرد من الممكن معرفة أبطاله ، لكن تلك الإيماضات الخفية التي يلتقطها الككلي تضيء جوانب غامضة من شخصياتهم ، جوانب لا يمكن أن نحدق فيها إلا من خلف عدسة تسلل بها الكاتب إلى عتمة ذاكرته ، ليرى من خلالها تفاصيل تلك الوقائع في عز توهجها بالشعرية والجمال (بمفهومه الإستاطيقي) . فالسجن قد يكون نفقاً مفضياً إلى الموت أو الجنون ، لكن الرغبة الكامنة في الحياة هي التي تروض بشاعة ذلك المكان عبر التنقيب المثابر والبحث الحفري في أعماق التضاد ، وفي المفارقة، كوسيلة جمالية لا تسعى لإضعاف الأضداد إنما لتصعيدها عبر الخفق المتواصل للأصوات الممثلة لها ، حيث تنافر الأصوات في الحياة يسمى فناءً وفي الأدب يسمى مفارقة … المفارقة كخيار إبداعي يفضي غالباً إلى الفكاهة ،تعويذة الفن في وجه قتامة سرد الواقع .
إن كل هذا القدر من الهواء الرمزي الذي يُنتزع عنوة من براثن الاختناق هو ما يقترحه الككلي لترميم ملحمة هامسة ضد اليأس والاستسلام ، هو ذلك البصيص الذي نواصل به المشي في عتمة الأنفاق ، وهو أيضاً ما يقترحه لنا عبر هذا التذكر لنتعلم أن نمضي قدماً ، ولا نلتفت إلا لنتأمل أثر أقدامنا على الطريق كلوحة فرار دائم من كل ما يخصي أرواحنا .
وتلك الدقة المتناهية في الوصف ورصد تفاصيل الواقعة تقنيات يتم توسلها لمقاومة النسيان ، لاوعي الكتابة نفسها يعمل بمثابرة ضد النسيان ، ووعي السارد يعمل بمثابرة على اقتناص أكثر لحظات الإيمان بالإنسان وهو يمضي قدماً ، وبمعنى آخر ؛ يكتب بلغة ضد النسيان مضامين تساعد على النسيان . هذا التضاد داخل تقنيات العمل هو ما يصّاعد بوتيرة النثر ويحافظ على توهجه طيلة السرد ، تضاد لا يشبه إلا ذاك الصراع التراجيدي داخل السجن بين أجساد متعبة وأرواح جاسرة .. المواجهة الصامتة داخل السجن تعلن عن نفسها في مواجهة جسدية تغدو فيها الحواس إحدى أدوات الدفاع ، فتحمي الروائحُ النتنة الضحيةَ من اقتراب الجلاد ، إذ تغدو الألفة هنا ملاذاً للتعايش مع تلك الروائح، ومع الصراصير، ومع كل ما يبعد القبضات عن الوجوه . وهذا التلاغي الجسدي في وطن البشاعة مشفوع بحس رقيق من السخرية، لا ينفك يتسرب داخل الوقائع وداخل الكتابة ، ينهال السجان القصير ضرباً على السجين العملاق مفترضا (أنه سَبّهُ في سره) .. إن الجسد الفارع يمتهن القامة القصيرة دون لغة ، مثلما الجسد الذي يحتمل التعذيب بجَلَدٍ يسخر من جسد الجلاد الذي ينضح عرقاً "كان يكتم صراخه حارماً إياهم من التشفي به" .. مثلما يغمر السجينَ سرورٌ حين يرى جميع الرفاق مثله وهم يقادون مكبلين عبر الممرات شامخين "برؤوس مرفوعة فوق قامة مستقيمة تشق الفراغ في خطى راسخة" .. ومثل ذاك الصراع العنيد مع ضعف الجسد في "إمهال الكرامة" … الجسد الذي يصفه السارد بـ "المادة التي يتم عليها العمل" حين يتذكر ذلك الجلاد الذي يعذب مجلوديه بضمير تكنوقراطي ، حيث يتوجه لأداء وظيفته بأخلاق مهنية عالية ، دون أن يسبب أي نوع من الإيذاء المعنوي ، ولذلك فإن "بعض مجلوديه كانوا يذكرونه بإكبار وعرفان" . هل ثمة صَدْعٌ تتسلل منه الفكاهة إلى علاقة بكل هذا التشوه . هذا ما يقترحه الككلي ضمن مأزق إنساني يغدو فيه التعذيب مهنة لها أخلاقها ، إذ يدير العبثُ اللعبةَ بحنكة ، وإذا يضطر الإنسان لأن يفصل جسده عن المعنى ، ويقدمه مادةً لتداول العنف معها .. مهنية الجلاد لا تعادلها سوى مهنية المجلود الذي يرفض أن يصرخ . كل هذا التلاغي الصامت يشكل منطقة خصبة للتداول عبر حوار أخرس بين أجساد منهكة من العذاب وأجساد منهكة من التعذيب ، ويظل المرفق الغض يحفر ببطء في صلادة الإسمنت .
الجسد القاهر والجسد المقهور يلتقيان في أكثر من نقطة على محيط الزمن الدائري ، يعرقان معاً ، ويتعذبان معاً ، فقط من أجل فرجة الآلهة التي طالما أتقنت اللعب بعذابات الجسد الإنساني . إن عالماً بهذا الأثاث لا يمكن التغلب عليه سوى بالسخرية، وإن كانت مُرَّةً كارتشاف فنجان قهوة سادا في شرفة مطلة على مقبرة .
إحالة مرتع القهر المعزول عن العالم إلى حقل الفكاهة محاولة لرتق فجوات الروح التي هُيئت لها كل عدة الخراب ، الفكاهة التي يستدرجها شخوص السرد في ذروة الإذلال، ويقتنصها السارد داخل ذاكرته، هي مركب سحري لإحالة كل ما حدث إلى حقل العبث ، حيث العبث كان دائماً ملاذ الفن حين تشتد القسوة وتفقد الإنسانية معناها ، العبث يظهر هنا متجسداً في التقاء القسوة بالفكاهة ، وفي تلك المسافة المتعددة الأصباغ بين البشاعة والمرح ، العبث يغدو بهذا المعنى نتاج أرواح تراوغ الانكسار ، ومحنة أجساد تتشبث بالحياة في كل ومضة هدنة بين الجدار الكالح والعيون الكسيرة ، بين ندوب السجين وعرق السجان ، بين ألفة الروائح الكريهة وتقهقر العسكريين ، أو في تلك المسافة الحرجة التي يقترحها الككلي بين الأمل والقنوط كمداورة تجعل "قوة العجز مقاومة" ، ومن "فعل المقاومة فعل انتصار" .
العبث بمفهومه التاريخي صنيعة كل هذا الجدل بين عنف السلطة وعناد الحالمين ، بين عمى التاريخ ودفء الأسطورة .. بين اللحم والإسمنت ، ومرة أخرى هو ذلك المحتوى الفلسفي للزمن الكافي للمرفق كي يترك ندبته عل الأسمنت في قاعدة النافذة .. العبث في ذروته حين ينهال السجان القصير ضرباً على السجين ذي الطول اللافت معتقداً أنه سَبَّهُ في سره ، مثلما يرتكب بطل رواية الغريب ، لألبير كامو، جريمةَ قتلٍ لأن الشمس في تلك اللحظة كانت عمودية .
**** **** **** ****
طيلة ثمان سنوات كانت شخصية السارد تجيد تمارين الاختفاء ، وتتدرب على طقوس التلاشي . لكي تكون كائناً لا مرئياً يعني أن تباشر بعناية حالةَ محو طقسي للجسد ، أداة التعريف والكينونة من ناحية ، وأداة الخذلان والتنازل من ناحية أخرى . وفي سداة هذا التلاشي العمدي ثمة خيط من العناد الهامس الذي يجعل من الشخصية الساردة أكثر يقظة وتلصصاً على سيرة الشخصيات المحيطة ، هذا الوجود اللامرئي ذو مسحة ميتافيزيقية مهيأة لمراقبة ما يدور بعين العالِم ما في الظلام ، ولها ما يكفي من الفطنة الكافية لتأثيث الذاكرة بكل التفاصيل التي تجعل التجربة تنعم بكل هذه الطزاجة بعد كل هذه الفترة من الزمن ، تصبح الذاكرةُ الورقَ غيرَ المرئي في مكان مصاب بفوبيا الورق ووسواس الحبر ، لذا فالانخراط في صخب التجربة وإعمال تكتيكات الجسد في التعامل مع مفارقات المكان يؤجج تربص الروح بذلك النثر اليومي الذي يتدفق بين أشخاص (جلادين وضحايا) وضعوا جميعاً داخل أسوار عالية في مواجهة اختبار إنساني صعب .. وان تكون لامرئياً يعني أن تأخذ مسافةَ صمت من تلك الوقائع كافيةً للتأمل . العينان الساهرتان ترصدان عصفوراً يدخل الزنزانة ، "يشمل المكان بنظرة ود واطمئنان" ثم يطير خارجاً ، يخرج العصفور عن عاداته فيتجول ليلاً ويدخل مكاناً مسكوناً ، كروح هائمة تنعش العتمة بشقشقة خفيضة وبألفة مأتاها أن أحد السجناء حَضَنَهُ يوماً ما، وحل محل أمه، حتى قَوِيَ عودُهُ وطيَّرهُ عبر الساحة ، وكحكاية يُهدهد بها الأطفال تُلتقط هذه الواقعة السريعة ، بل ويذهب السارد عبر إرهاف حواسه إلى استكناه "نظرة ود واطمئنان" في عيني عصفور في زنزانة شبه معتمة ،مستلهما من تلك النظرة تلك الخفقة الشفافة المتمثلة في (الحنان) عبق الكينونة والفطرة الذي يعطي لكل شيء معنى أن يكون كائناً حياً ، الحنان والعرفان صوتان للروح المحاصرة يستمطرهما الككلي من عيني عصفور حط آخر الليل على حبل النشر دون وجل وطار تاركاً خلفه ارتعاشة خفيفة في الحبل والقلب.. مشهد أخاذ لا يقوى على التقاطه من قبضة العتمة سوى كائن غير مرئي تفتش عيناه في الغبش عن كل مرح يقشع جزءاً من البشاعة .
ثمة إصرار على التواجد خارج الحالة ، وثمة تهريب مستمر للروح خارج وطن البشاعة ، بالاختفاء أو بالأقنعة أو بالصمت . الولع بقضاء أطول وقت ممكن داخل الحمّام طقسُ اختفاءٍ تطهُري واحتفال مؤقت بالخصوصية المنتهكة داخل مكان يزدحم بالعيون الزاجرة ، الارتباك عند زيارة الأقارب ، إذ تفشل تمارين الاختفاء ويبدأ دور القناع "بإظهار الابتسام والمرح بأوضح صورة ممكنة" "حاولتُ اصطناع ابتسامة عريضة ونظرة تنم عن نفسية متماسكة لامبالية" وكل مرة تخذله أنفاسه وصوته ،
لكنّ ما يبقى رغبة كامنة في تجريد الكينونة أو تزييفها، بدأت منذ أول يوم طارده فيه العسكري لضربه ، منذ رأى الآخرين كألسنة من اللهب ، ومنذ أن طالته القبضة القاسية ورمت به على البلاط الصلد ،( وكان في تلك اللحظة يعتقد أنه يلعب لعبة الغميضة "نشأ لدي نوع من الاعتقاد ، وقتها، بأني لو وصلت إلى النقطة التي كانوا يريدوننا أن نقف فيها قبل أن يدركني فلن يواصل مطاردتي" لكن اللعبة خرجت عن طورها ، بينما ظل هو يلعب - بطريقته - الغميضة كي لا يُرى طيلة سني السجن ) ولا شيء كان بمقدوره أن يفعل سوى عدم إسقاط الأمتعة والنهوض مجدداً . التشبث بالأمتعة يعني الحلول تلقائياً في كل ما لا يمت بصلة لهذا المكان .. يعني التمسك بقليل مما يملك أمام أبواب فاغرة تسعى لأن تملك منه كل شيء ، والنهوض سريعاً سيصبح بداية فرار للجسد حتى التلاشي ، والاختفاء من كل ما يشير إليه بالانمحاء المنهجي وتعميم الملامح ، فقط ستبقى الحواس اليقظة تتجول وتتأمل وتخترق الجدران عبر تقفي أثر الأصوات والروائح المتسللة من الخارج "بعد فترة من المكوث في السجن ، ترهف حواس السجين ، وترق أحاسيسه ، حتى حاسة البصر التي أصبحت ترى مفردات محدودة ، تتنبه وتتحفز لالتقاط التفاصيل الدقيقة ، وتزداد رهافة حاسة السمع ، لازدياد الاعتماد عليها ، كما تنشحذ حاسة الشم" ، إنها الحواس في أوج تحفزها حين تجيد الإصغاء للأنين وللابتسام ولاختراعات المرح المحفوف بالخوف .
في مكان يتجول فيه القهر بكل أبهة ليس أمام الإنسان سوى أن يتحول إلى هالة تسبح في الصمت، ليس من خيار سوى أن يغدو في زحام العنف نكرة تعطي بظهرها للحراس ، وتعلن عن وجودها بالكحة أو بالطرق على باب الحمام .. في الأمكنة القاسية عليك أن تكون لا مرئياً ، هذه حكمة معسكرات الجيش والسجون والمقابر.
الملفت أيضاً أن تظل أنا السارد غير مرئية في هذا النص ، فيسيطر الآخرون على مساحة الأحداث، ووحدها تظل حواسه ساهرة في تداعي السرد ترصد ظل المرح الذي ينمو في حقول البشاعة ، وأصواتِ العربات وتَدحرُجَ علبِ الصفيح في الخارج ، وشقشقةَ العصفور الخارج عن عاداته ، وتلك الشفقةَ المؤلمة في عيون الزوار ، (أنا) شفافة أثيرية، حاضرة وغير مرئية ، تتسرب في تفاصيل الأحداث دون جسد أو ملامح ، تسلط ضوءها بقوة فتغدو الظلال قوية ، وهذا التراسل بين أنا السجن وأنا المبدع إحدى تقنيات السرد التي حافظت على حرارته إلى آخر سطر .. وثمة تراسلٍ آخر جدير بالإشارة .
شاعر معتقل العقيلة رجب بوحويش، سألت عنه أبي وبعض الأقارب الذين قضوا معه سنوات المعتقل، وجميعهم لم يره أو يتعرف عليه رغم الزحام وضيق المساحة التي تواجدوا فيها .. يبدو أنه كان كائناً لا مرئياً يرتب بصمت قصيدته في الذاكرة ، التي تدين بكل ما فيها ليقظة الحواس. هل كان التخفي وسيلته لتأجيج الذاكرة ؟ ومن ثم نقل كل ذلك الألم المعزول عن العالم عبر الفن الذي كثيراً ما ينمو في أكثر الأماكن بشاعة ، ليغدو الشهادة الأزلية الوحيدة على أي مكان معتم وبعيد عن ضمير العالم وعدساته . (يهدي الككلي كتابه للشاعر رجب بوحويش .. ولا تعليق) .
**** **** **** ****
أثناء كتابتي لهذه المقاربة بعثت بماسج إلى الصديق عمر الككلي أقول فيه ) : أعملُ الآن بجد على سجنيات .. أشكرك على كل هذه المتعة ، وآسف لأنني استمتع هذه اللحظة بعذابكم) فرد علي فوراً بما مضمونه :(أشكرك . ولست أدري إن كانت الكتابة عن العذاب بشكل يمتع القارئ ثأراً من العذاب أم تجميلاً له؟ قد تفتح لك هذه المسألة كوة في ما ستكتب(
سؤال سأقترح له معالجة من خلال مفهوم التضاد الذي حاولت تلمسه في هذه المقاربة بين البشاعة والمرح وتداعيتهما كآلية مقاومة داخل السجن ، والذي تناغم مع إحساس مزدوج ـ أثناء قراءتي لسجنيات ـ بالمتعة والحزن ، يبدو أن تحويل الألم الإنساني إلى هذا الحقل للتداول أحد ضرورات الفن . هذه ليست إجابة شافية ، ولكني سأترك هذا السؤال المقلق مشرعاً لكل من يقرأ هذه النصوص .
سالم العوكلي
08-أيار-2021
15-شباط-2011 | |
25-تشرين الأول-2010 | |
23-تشرين الأول-2010 | |
05-كانون الأول-2009 | |
01-كانون الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |