بصيرة الشعر/ محاولة ليست يائسة لتأصيل الحداثة
خاص ألف
2009-12-01
أكثر من غيرها واجهت القصيدة النثرية كحساسية جديد سيلا من العناد المحافظ والتهم التي انصبت عليها، مما شكلته من صدمة للأذن العربية التي تربت على إيقاع شعري محدد لقرون عديدة ، ولأن الجديد يعبر عن جدته الفعلية عبر ما يبعثه من صدمات تجاه البنى التقليدية وعبر ما يثيره من قلق كان كل هذا العنت التي لاقته القصيدة الجديدة أحد بواعث قوتها واستمرارها ، رغم أن التهم التي واجهتها خرجت عن التداول الفني مع النص الجديد لتتحول إلى اتهامات أخلاقية وسياسية، تبدأ من خيانة التراث وتصل إلى العمالة والتعامل مع الدوائر الخارجية، لتكون جزءا من نظرية المؤامرة الشائعة .
لن أذهب بعيداً في الدفاع ضد هذه التهم أو التنظير بشأن هذا القلق . ولكن باعتباري أكتب القصيدة النثرية فإنني أفترض نفسي معنياً بهذا القلق ومقصودا بهذه التهمة ، لذلك رأيت أن أقدم تجربتي الخاصة، وأعود لاستجواب ذاكرة ذلك التكوين الشعري الذي أوصلني حتى الآن للتبجح بهذا الشكل الشعري الذي اخترته للتعبير عن وجداني وتجربتي .. وإذا ما أخفقت في المرافعة سأكون على الأقل قد خرجت أو خرجتم بالاطلاع على تجربة شاعر عاش هذا القلق من داخل العملية الشعرية نفسها ، وتوجس من القصيدة وهو يكتبها .
بدأت علاقتي بالشعر وكأغلب الشعراء والغاوين مع تلك القصائد التي كنا ندرسها في مادة النصوص ، والتي كان حفظها الإجباري يهبني من العنت والمقت أكثر مما يهبني من المتعة ... ريما يرجع ذلك لسوء اختيار النصوص المقررة ، وربما لسوء طريقة تدريسها .. كنت أتساءل : لماذا الكلام مرصوف بهذا الشكل الذي يشبه طوابير التلاميذ الصباحية ؟ لماذا هندسة القصيدة ؟ لماذا المسطرة .. إني أكره الهندسة والزوايا الحادة والمنفرجة حتى في الحدائق ، التي تبدو فيها الأشجار المزروعة في طوابير متناسقة كجند في ساحة .. أحب عفوية الأشجار التي تختار أمكنتها في الغابة ، وأحب تلك المفاجآت في الدروب المتعرجة . كيف من الممكن أن نضع نهايات متشابهة للأبيات كالمحارم على رؤوس البنات ونقود الكلام عنوة إليها ؟ كنت أتساءل فقط .غير أنه في الوقت نفسه كان يتولد لدي شغف بالشعر الشعبي وإن كنت في تلك الفترة وبحكم سني لا أفهم أغلبه .. حسنا يقول تي أس أليوت : الشعر الحقيقي هو الذي يصل إلى القلب قبل أن يفهمه السامع . حسنا مرة أخرى ، قال الجاحظ قبله بقرون :يستحب أن لا يكون اللفظ أسبق إلى السمع من المعنى إلى القلب .
كنت أتابع برنامج الأدب الشعبي في الراديو وكان وجداني يمتلئ بذلك الإيقاع الغنائي ، وتلك الجزالة العامية والقدرة على اكتشاف جماليات المكان الوعر والحياة القاسية . ورغم أن الشعر الشعبي متراصف مثل قصائد مادة النصوص إلا أنه يبدو أن تعاملي السمعي معه لم يجعلني أرى هذا التراصف ، حيث كان رقص الكلام أمامي ساحرا ومثيراً ، وعندما قرأت الشعر العربي القديم ، اكتشفت ذلك التشابه الكبير بينه وبين الشعر الشعبي ، في الجزالة وفي العلاقة بالمكان وفي الأوزان ، وفي الأغراض أيضا، رغم الاختلاف في اللغة . شدني شاعران مازلت احتفظ بديوانيهما منذ تلك الفترة ؛ المعري وأبونواس . وأعود الآن لأتفحص سبب هذا الانشداد ، وأفكر أن الخطاب لديهما كان مختلفاً عن الشعراء الآخرين . الإخلاص للتجربة التأملية في الوجود والعدم والغربة ونهب القصيدة من التحديق في العتمة عند المعري . والإخلاص للتجربة الحياتية الحسية والتهكم على الترسيمات السائدة ، ومناطحة التابو ، وروح التمرد الشعري عند أبي نواس . وكان يصيبني وسواس بأن الشعر الأصيل هو الذي ينتهك المسكوت عنه ويحفر رأسيا في ثيمات الوجود ويطوح بأسئلة الذات في كل اتجاه . أقول هذا الكلام الآن الذي بالتأكيد لم أكن أعيه في تلك الفترة ، لكن سر الشغف مازال غامضاً ، وهو الشغف نفسه الذي جعلني أحب شاعراً شعبيا مارقاً ، وإن كان قليل الموهبة ، مثل بوالتقازة . وشاعراً حسياً مثل بوحليقة . شاعران لم يكنا في قوة سبك عبدالسلام الحر وجمعة بوخبينة أو أرميلة ، لكن ما كان يسحرني هو استعاضتهم عن بلاغة اللغة ببلاغة الواقع ، وعن جزالة المعجم بجزالة المغامرة الحسية .. وجميعهم قريبون من نفسي ولسبب لم يعد غامضاً . ربما اكتشف الآن أن نزوعهم الفطري لتحديث القصيدة كان ينبع من أصالة التعبير عن ذواتهم كما هي لا كما تمليه الأنا العليا ، وأدرك في الوقت نفسه أن الحداثة والأصالة شيء واحد .
النقلة الأخرى كانت مع تعرفي المبكر على كتب الشاعر نزار قباني ، الذي لم يخرج عن قالب وإيقاع القصيدة الكلاسيكية ، لكنه خرج بجرأة عن قاموسها وزحزح مفهوم المحاكاة السائد قبله، واستطاع بموهبته ترويض مفردات الحياة الحديثة للحدث الشعري ، كما أستطاع أن يؤجج مراهقة القصيدة بشكل يجعلها في كل زاوية من الشوارع تتربص بالجمال الدارج وبالعطر وبإيقاع الكعوب النحيلة على الرخام . حاصرني نزار داخل شبكته السحرية ، وكان يشبع نهم مراهقتي الشعرية، ويمنحني كل شيء جاهزاً .. وكانت قصائده تختصر لي مسافات الخجل بيني وبين تلك العشيقة القروية .. حاولت أن أقلد شعره واستعير مغامراته الفارهة ، وأن أكتب عن السرير الوثير في زمن لم أكن أعرف فيه السرير إطلاقاً ، وأن أزرع في قصائدي المبكرة حديقة من زهور الأوركيدا والجاردينيا والزنبق والقيقب ، تلك الزهور التي لم أرها أو أشم عطرها .. مع ملاحظة أني أعيش في قرية تسمى القيقب .
وجدت نفسي أسير هذه الشبكة الحريرية ، ولم يعجبني شعر السياب ولا البياتي ولا أدونيس ولا حجازي ؛ فرسان ساحة الحداثة الشعرية في ذلك الوقت ، رغم أن السياب كان يذكرني بالمعري، وكأنه فينيق نهض من رماد عتمته ، إلا أن سحر المعري اكتفى بالمعري .
سمعت صدفة قصائد مسجلة على شريط كاسيت للشاعر الليبي محمد الشلطامي ، فامتلأت بخدر غريب يشبه ذاك الخدر الذي كانت تصيبني به مهاجاة أمي للرحى: (شعير في خشوم المزن .. منام الرحى جايبلها ) وكنت طيلة أماسي الخريف ألاحق المزن باحثاً عن سنابل الشعير في نواصيه .. يا للروعة مجاز مرسل ينفي كل العلاقات السببية، لو قيل في عصر الجاحظ أو قدامة أو ابن طباطبا لاستنكروه لأنه يمثل غلوا يفسد الشعر .
كان الشجن والإيقاع ما أثارني في قصائد الشلطامي ، وكان اكتشافي لشاعر ليبي يقارع رموز الشعر العربي أول تمارين عودة الثقة بنفسي. يقولون أن الشلطامي كان متأثرا بالبياتي الذي حقيقة لم أميل إلى شعره حتى هذه اللحظة، لكن في قصيدة الشلطامي كنت أسمع رنين القصيدة الشعبية الساكنة وجداني ، فكان بالنسبة لي شاعرا شعبيا كبيرا يكتب بالفصحى . أي بمعنى يكتب الشعر المرسل وهو في ذروة إصغائه لذلك الصوت البدوي الطان في داخله كمزمار في خلاء أو كزنين جندب في قيظ الظهيرة . وعندما سمعت فيما بعد قصائده العامية ما عدت استغرب الأمر .
ومن جديد بدأت بدأب على التخلص من سحر نزار مع ولعي بقصيدة الشلطامي ومن ثم محمود درويش ، الغنائي الكبير القادر على اللعب بسهولة في بطن ثور .. أقصد بطن تفعيلة الشعر العربي الذي ما برح ينفخ فيها من قريحته المتفجرة . ورغم عدم ميلي لحفظ الشعر عموماً إلا أني حفظت قصائد لنزار ودرويش والشلطامي ، ولا تطلبوا مني تسميعها لأنني نسيت كل ذلك .. ذلك النسيان النبيل الذي أعانني على أن أحث قدمي الشعرية قدماً . على الشاعر أن ينسى ما يقرأه .. يبدو أنها حكمة القصيدة التي تؤسس لملامحها وهويتها الخاصة .
عشت في ظل هذه الخلطة من محاليل الشعر المختلفة ، أتمرن على النسيان وخفق الذاكرة بشدة حتى وقع بين يدي ديوان أحمر مجلد للشاعر محمد الماغوط ، وقرأته دون توقف : يا الله .. لا وزن ، ولا قافية ولا إيقاع محدد ولا استعراض معجمي ، لكنه يسحرني ، إنه ليس نثراً مثل الذي نقرأه في الخاطرة أو الرسائل أو القصة ، وأدرك في قرارة نفسي إن ما أقرأه شعراً ، ولكن أين تلك المقومات المعهودة التي أنبنى عليها الحدث الشعري لفترة طويلة. إنه شاعر بالفطرة ، وهو – كما يقول – ليس مثقفاً ولا مطلعاً جيداً ، لكنه يغامر بحساب لا يدين لشيء سوى للذوق وللتجربة ، ويفتح أبواباً جديدة – تركها نزار مواربة – للقصيدة التي تقتفي الحياة اليومية والصور المستلهمة بعناية، وبخبرة التلصص على مكامن الجمال في الهامش كان كأنه يسحب الشعر من جيوبه . والأهم من ذلك استخدامه الذي لا يخلو من روح سخرية لكاف التشبيه ، التشبيه الذي اعتبره النقاد العرب جوهر مفهوم المحاكاة ، والذي كانوا يعتبرون الغلو فيه خروجا عن جوهر الشعر . لكن الماغوط كان مغالياً ولديه القدرة على شحن الكاف بكل ما هو كاف لغضب أجداد الشعر. وعن طريق الماغوط كنت أتملص من أخر خيوط شبكة نزار التي قضم خيوطها الأولى شعر محمد الشلطامي ، ثم محمود درويش الذي يقول هو نفسه إنه خرج من معطف نزار .
ميزة الماغوط أنه لم يعطني خيالا جاهزاً ولا قاموساً ولا مغامرات أحاكيها ، لكنه منحني وهو يدير ظهره لي مفاتيح الشعرية وأسرار القصيدة .. قال لي : أنظر حولك فإن الشعر منتشر في كل التفاصيل .. فقط أطل المكوث عند كل ما يمر عليه الآخرون دون اكتراث .. لا تجعل الألفة مع الأشياء تحرمك من متعة التأمل فيها .. دع قصيدتك تنهال كحلم يقظة أو كاعتراف في صومعة .. أو بالأحرى ككثيب رمل كل يوم يغير شكله دون أن يفقد هويته ، سيف رمل يحث خطاه ببطء مثابر دون أقدام ودون غاية . وصرت أمارس تمارين هذه الحساسية الجديدة ، وأكتب وعيني الثالثة مسلطة على كل ما يحيط بي ، مستجيباً من جديد لإلحاح أسئلة الطفولة التي لم يجبني عليها أحد ، وإعادة تلك الأسئلة شعرياً كانت باكورة ثأري من الخرس الذي أحاط بها . وعالمي القروي كان متاع القصيدة وزوادتها التي لا تنضب .. أعدت اكتشاف وراد القرية ذلك الرجل الكهل الذي مرر مجونه عن طريق الشعر .. فكل مسكوت عنه كان يهربه عن طريق الشعر ، والجميع يضحك ويتسامح مع مجونه .. إنها سلطة الشعر الخفية التي سأجدها بعد عقود في شخصية جاروميل في رواية الحياة هي في مكان آخر لكونديرا، فجاروميل عندما كان يريد أن يسب جده أو عائلته يهرب سبابه في بيت شعري ، وبدل أن يضرب على ردفه يضحك الجميع بما فيهم الجد ، ويأخذون في ترديد كلماته البذيئة في الأسرة بلهو وغبطة ، وهو يعرف ان القافية هي التي أنقذته من الضرب وانه بدا يمتشف تلك القدرة السحرية للشعر التي جعلت منه فيما بعد شاعرا يشار له بالبنان . وعبر هذه المسافة الزمنية كنت أدرك أن ما تكتشفه الغريزة أو تحسه الفطرة ستؤكده المعرفة بعد ردح من الزمن ...
أعدت اكتشاف مرايا الصخر المبلل في الصباحات المشرقة، واستدعيت قوس قزح لفراشي ، وسمعت من جديد موسيقى نقر المطر على الصفيح ، أعدت اكتشاف رائحة البطوم والشيح، ورائحة التراب الخريفي عند المطر الأولى .. وتتبعت بشغف خطى تلك البدوية الجامحة كذئبة في طريق الحطب والماء . وذلك الحدس المدسوس كبوصلة في رأس نملة عمياء . وعندما انتقلت للمدينة بقصائدي النثرية وجدت العالم المحيط بي يتغير ، فكانت الأرصفة النحيلة والأزقة اللاطمة ونار الأراجيل والشرفات الخالية وصخب المقاهي ، كانت تحل مكان ذلك الأثاث، لكن القصيدة التي تفتح عينها على هذا الأكسسوار الجديد مازال الحنين يراودها إلى ذلك المكان الغارب حيث مخدعي الذي أرى منه النجوم . وما بين الانتباه للحظة والحنين كان نص آخر يتشكل .. نص يسير قدما ينشد أساطير المستقبل، لكنه مازال يتلفت بقلق إلى الخلف حيث فردوس الذاكرة المفقود .. يبدو أن قدر الشاعر والشعر هو ذلك التلفت الذي يجعل من مفهوم " القطيعة" الذي تم ترويجه أكبر أكذوبة افترفها النقد .
لا إمكانية للقطيعة طالما أن الشعر ينبع من الروح وطالما أن الشعر نبي الوجدان . هذه حكمة الـ.... اللعنة فلتذهب الحكم إلى الجحيم ، فكل ما هو صلب يتبخر ويذوب في الهواء .
اعترف أني حتى وصولي إلى المدينة لم أقرأ شعراً مترجما .. وفيما بعد قرأت بعضاً من رامبو وبودلير وولتمان ولوركا وناظم حكمت ونيرودا وجاك بريفيرا وأكتافيو باث وربما غيرهم .. أطلعت علي شعرهم المترجم بيقظة ووعي وبعين ناقد، وكنت في كل ذلك أحاول أن استبطن طرق معالجتهم لثيماتهم ، لأني كنت أدرك أن الترجمة خائنة أزلية للنص وأن للغة روح حرون لا يمكنها أن تنتقل إلى اللغة الأخرى .. هذه الروح مثل زهرة البوقرعون التي بمجرد أن تنقلها إلى تربة أخرى تذوي وتموت . لذلك بدأت أركز على قراءة كتب النقد المترجمة أكثر من الشعر ، ومن خلالها تولد عندي قلق آخر يتعلق هذه المرة بحداثة الخطاب . حسنا فلندع مسألة الشكل والمحاكاة وكل ما يتعلق يتقنيات النص الشعري الجديد، فهذا أمر مرتبط بالدربة والمران وبالتودد لإيقاع اللغة نفسها وكثافة النثر ، وغير ذلك من الكلام الذي بالتأكيد يسمن من جوع ويروي من عطش . لكن السؤال اللحوح : ماذا أريد أن أقول ؟ وما هو مرسل هذه الحساسية الجديدة ؟ يبدو أني أخلط هنا بين الخطاب والمضمون ، لا بأس إنه خلط عربي أصيل، ولكن ما أريد قوله : ما جدوى شعر يتبجح بملابسه الأنيقة الجديدة ، وهو مازال يبكي على الأطلال ويمدح الطغاة .. يزدري الأنوثة ويلعق الأحذية ، وفي خاصرته يلمع مسدس، وفي أفضل الأحوال يطرح أنا سوبرمانية متورمة تلغي ما قبلها وما بعدها مثل أي طاغية في هذا العصر أو العصور السابقة أو اللاحقة . حداثة الخطاب كانت شاغلي ومشغلي الجديد ... عندما قرأت دراسة لكمال أبوديب يقول فيها ما معناه إن الشعر من الممكن أن يتخلى عن كل محسناته عدا الاستعارة ، فهي جوهر الشعر وشرطه الأساسي ، حاولت أن أكتب قصيدة من باب الشطط أو التحدي دون أن استخدم فيها الاستعارة (من أول السطر) كانت كتابة قصدية ومخطط لها وخبيثة، تعتمد على الخبرة أكثر من الإلهام . وحين قرأت هذه القصيدة بين أصدقاء ، قال نور الدين الماقني وهو ثمل : هذه قصيدة تستعيض عن كل شيء بحداثة الخطاب . ولم أؤمن حتى اللحظة أني نجحت رغم هذه الإشارة الحاذقة ، التي تدغدغ غرور القصيدة . ألقيتها مرة أخرى في قسم اللغة العربية بجامعة عياض بمراكش بعد أن شرحت أسباب نزولها ، فداخل أحد المحاضرين الذي عرف بنفسه كأستاذ بالقسم أعد رسالته حول الاستعارة في الشعر العربي، قائلاً: إني عثرت على استعارتين في هذه القصيدة ، لكن اعتبرهما جديدتين ، ولم يتطرق أبدا إلى حداثة الخطاب لأنه كان يواجه التحدي بالتحدي ، ويصطاد هفوات القصيدة التي تبرأت من الاستعارة، وطبعاً هذا الترصد يعتبر أحد مناهج النقد العربي الأصيلة أيضاً . هذا ليس مديحاً لهذه القصيدة لأني أعتبرها صناعة رغم كل التظاهر بعفويتها المزيفة .. وصرت فيما بعد أتوجس منها كلقيطة مسجلة في كتيب عائلتي الشعري . لكن تظل حسنتها أن جعلت فيما بعد حداثة الخطاب هاجسي الملح دون أن أتخلى عن تلك الأصوات النابحة في ليل ذاكرتي دون هوادة ، والتي ما فتئت تقض مضجع القصيدة وتمسك بطرف ردائها كطفل يخاف من الضياع وسط الزحام ، إلى أن كتبت مقدمة لديواني الأخير(الوهابة .. سارقة الموسيقى) أو ما يشبه بياني الشعري حتى الآن على الأقل ، سألوذ به الآن من أجل إطالة هذه الورقة: قلت فيه تقريباً :
ما الطريق الذي يأخذني إلى البداهة الأولى وطراوة التجربة ؟ لطالما لا حقني هذا السؤال وأنا ابتكر ألعابي الشعرية، كنت مأخوذا بالسياق الذي لابد ان أدوزن ضمنه أوتاري، عاكفاً على أن أكون ضمن ظاهرة نصية تعطيني هوية الانتماء إلى اقتراحات عصري الجمالية، منتشياً بهذا الزيغ القهري عن كينونتي المزدراة، مقحماً عناصر التأليف النوعي في خلق قصيدة تستعير أثاثها من ورشة الشعر المنجز ضمن خرائطه المقترحة، وفي قلب وتيرة هذا التلبس الجائر روضت الكثير مما يتحامق في داخلي ،وعبرته متوجساً مثلما أعبر قوس التفتيش الشعاعي في المطارات، كان الأفق شاسعاً لأشع بما قرأته وبما ينبغي أن أكون ، وفي خضم هذا الرونق المستعار كانت مناحل الوجدان تطن في أذني، أصوات تشكل معها لحمي ودمي ووجداني ، أزجرها كلما اقتربتْ من تخوم الحبكة، أو الصيغة الجاهزة.
الآن ـ بدون أي حرص مصطنع على إرضاء هذه الخبرة ـ أنصت من جديد لهذا الصوات المطعون في روحي، وأعيد اكتشاف ذاتي التي أضعتها في منفى الانخراط في جوقة الذكاء المتبجح ، أراجع تجربتي فلا أجدني، مثلما أحدق في مرآة ولا أرى وجهي، ثمة الكثير من التوق الداخلي الذي أنطرح خارج المكابدة ، وثمة إيقاعات ملأت مغارة الروح أزيحها من طريقي لأصل سريعاً إلى متحف الشمع ، أحاول ـ متملصاً من الوصاية ـ القبضَ على هذا الإيقاع الكامن الذي زخرف روحي وأينع جسدي، فأنصت لنغم المزمار في أعماقي، لأغاني العلم.. نثر الخلاء الذي قاوم به الإنسان المفرد عزلته، أنصت لما مكث في نفسي من نئيج الريح وتراتيل القرآن وأغاني الرحى ونحيب النساء وسرد الجدة وعواء الذئاب وطنين الحشرات ونقر الماء على سقف الصفيح .
أطلق العنان لما تعاليت عليه في هوس التودد إلى حنكة الأسئلة الثقيلة ، أحاول أن أكتب مثل الذي يسير في نومه، يرى بعينيه المفتوحتين دون أن يصحو مخه، وامزج الرؤية المخدرة بخزين الذاكرة، العينان مشرعتان بلا يقظة، يسيران في عتمة الطريق بالضوء القاطن فيهما . إيقاظ الذاكرة وظيفة أخلاقية للشعر كما يستدرك الشاعر أونجاريتي في ضباب عمره ، أبحث عن براءة البدايات التي حرمنا منها حين قذفنا إلى التاريخ، وعن ألعاب الطفل التي غادرناها إلى رشد المخيلة، الذاكرة غناء لا يكف عن ضخ التجارب في حدس اللحظة ، إنها ـ بانسلاخ آخر عن جور الحرفنة والتكرار الطقسي ـ قصائد الحنين ، ولا يمكن ان يكون الحنين إلا غناءً .. قصائد النوستالجيا، تلك المسبة التي طالما راوغتها بذريعة النظر المنهجي إلى الأمام، وكأن الحياة قطار لا يلتفت، الحنين المنحاز إلى الدائرة ، الدائرة التي هي كنه الحياة التي تطارد ذيلها ،القاطنة في زمنها الدوار مثل النجوم والفصول، الحنين الذي ولد معنا، وظل أحد ملاذات الإنسان ـ الموجود في زمنه كله ـ كلما تقلصت المسافة بينه وبين الموت ، وأكثر من ذلك هي قصائد الانجراف الطفولي وراء كل ما يبهج، دون توجس أو مراقبة ، وليذهب إلى الجحيم كل ما قرأته إذا لم يلهم كل هذا الهديل في روحي .
××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
08-أيار-2021
15-شباط-2011 | |
25-تشرين الأول-2010 | |
23-تشرين الأول-2010 | |
05-كانون الأول-2009 | |
01-كانون الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |