جيل القطيعة
خاص ألف
2011-02-15
عدة أسئلة تطرحها هذه الثورات التي انبثقت من وسط اليأس وبشكل فاجأ العالم برمته؛ الثورة التونسية والثورة المصرية .
من أين انبثقت أسطورة هذا الجيل ؟ وهل ثمة مقدمات كانت توحي بهذا الانفجار الثوري العفوي والمنظم في الوقت نفسه، بشكل أذهل الجميع ؟
ولأن الأسطورة محاولة لحقن التاريخ برغبات المخيلة الإنسانية ، فإنها في هذه الحالة تحققت حين ضربت حدس التاريخ في الصميم ، وهشمت بعفوية مطلقة يقين السياسي وحصافة المخططات الإستراتيجية المتقنة .
فمن أين تأتت استثنائية هذا الجيل الذي كم كان هدفا للتهميش وللتهكم ولفقدان الثقة فيه ؟ كيف اختلف ؟ كيف فاجأ العالم ؟ تطرح هذه الثورات مزيدا من الأسئلة، لكنها في الوقت نفسه لا تكف عن اقتراح الإجابات.
لقد ورثت الأجيال الطليعية السابقة ميراث المرحلة وسردياتها المطبقة ، وكل نزوع فتي إلى التغيير كانت تمتصه الخيارات الأيديولوجية السائدة، وتروض بحكمة السياسي المحنك نزقه ، وتصدر أزماتها إلى جموحه فتخفت رويدا رويدا غنائيته الثورية.
كانت أجيال حالمة لكنها مثقلة بعبء الماضي وكوابيس المغامرة غير المحسوبة ، أجيال ولدت وتربت في وقار المجتمعات الأبوية التي تتغنى بالقناعة والطاعة لولي الأمر ، فلا تملك إلا أن تسبل أجنحتها لتلك السلطات الأبوية المركبة والمتداخلة ، البيولوجية والاجتماعية والدينية والسياسية ، سلطات تمتد من نظام الأسرة إلى نظام الدولة ، من الأب البيولوجي إلى الحاكم بأمر الله ، فكانت الوصاية ومديح الحكمة وهواجس الاستقرار ونظريات المؤامرة حائلا أمام تطلعاتها ، وكانت الأسرة دولة عرشية صغيرة تنمو فيها طقوس الطاعة والامتثال لأي سلطة أبوية .
ومع عقد التسعينات ، ومع ضيق المكان وضيق الزمن، أنزاح الوطن إلى حيز صغير هو الجسد، فصار ثيمة الإبداع والفن وخطاب المرحلة ووسيلة التعبير المتاحة ، تلك المساحة التي أشعلها في تونس الفتى بوعزيزي القادم بعربة خضاره من هامش الهامش ، فقدمه قربان كرامة ذُبحت بصفعة شرطية على رصيف في مدينة على هامش الهامش ، لم يكن جسده مؤدلجا، ولم يطوقه بحزام ناسف ليقتل الأبرياء ، لم يكن يرغب في أن يكون شهيدا، ولم يفكر في عواقب الانتحار مثلما اجتهد بعد موته الفقهاء واختلفوا . لم يكن يريد سوى مساحة متر مربع في وطنه ليحصل على قوت عائلته ، وحين منعت عنه أحرق نفسه ليتخلص من جسد يعرضه للإهانة وتسلب كل يوم كرامته عن طريقه ، وكان القشة التي قسمت ظهر نظام بوليسي شامل برمته . كان في الهامش ولم يكن له وطن سوى تلك المساحة الافتراضية في موقع الفيس بوك الاجتماعي الذي ترك عليه وداعه الأخير لأمه .
منذ العقد الأخير من القرن الماضي كان ينهض جيل آخر متقوقع على نفسه ، ومعزول عن الصراعات السياسية والأيديولوجية ، أو هكذا كان يبدو ونحن نراه منكفئا على شاشات الكومبيوتر، أو عبر انعزاله في تلك الغرف الضيقة في مقاهي الإنترنت أو في البيوت، يقضي جل ساعات يومه ، معطيا بظهره لكل شيء، ولا شيء يتحرك فيه سوى أصابعه على الكي بورد أمام تلك النوافذ الضوئية المفتوحة على العالم .
كان جيلا جاذبا لتهكم الأجيال السابقة ، توحي عزلته الإلكترونية بأنه فارغ وعابث وغير منتم، ولا قضايا له .
لكنه عبر هذا الانكفاء كان يرضع ضوءا لا نراه ، وعبره تتشكل ثقافة جديد ووعي مغاير، أهم ما كان يميزه تلك القطيعة مع الأجيال السابقة والفرار من وصايتها ومن أزماتها.
لذلك بدت هذه الثورات مفاجئة وغير متوقعة حتى لأكثر دراسات مجتمعاتنا السوسيولجية دقة ورصانة . ، وبدت ثورة هذا الجيل، بنظامها وسلميتها، ملهمة ، وبدت آراؤه الواعية صادمة لأذهاننا، بشكل يجعل من كل ذلك حدثا يشبه المعجزة ، يحاكي الأساطير .
هذا الجيل في الواقع لم يفاجئ نفسه، لأنه كان يتشكل على مهل ، لكنه فاجأ نظاما بطريركيا تجذر عبر قرون وأيقن من قوته، و من طاعة الأبناء .
البعض يسميه جيل العولمة ، والبعض سماه جيل الفيس بوك ، والبعض سماه الجيل الرقمي ، وهي تسميات تسعى لتفسير المفاجأة ، لكن أهم ما يميز هذا الجيل أنه جيل المستقبل ، بمعنى أنه لا يتحدث سوى عن الوطن والمستقبل ، ولا يحمل أي دوافع ماضوية لحيويته ، ولا يدين لأي تشكيلات سياسية أو حزبية تستمد مرجعبتها من إرث الماضي ، قومية أو دينية أو اشتراكية أو لبرالية أو غيرها ، وبقدر ما كان ينظر إلى الماضي بازدراء منهجي، بقدر ما كانت ملامح المستقبل تتضح أمامه . إنه جيل غنائي بامتياز لا يجمعه سوى حلم وطني بحياة أفضل .
الآباء السياسيون اعتبروا هذا السلوك الصبياني شقاوة أولاد أو (تسلية)، و يمكن إسكات هؤلاء الأولاد ببعض الحلوى أو بوعد بجولة في الملاهي . ليدركوا في النهاية أن الأمر أكبر مما يتصورون، وأن هذا الجيل (سيئ التربية) - بالنسبة لهم - هو خلاصة الثورة المعلوماتية وخلاصة الإحباطات والوعود الزائفة ، التي أهم ما فعلت أنها جعلتهم ينفصلون عن وصايا الآباء وحكمة الكبار، فتجلى رفضهم لمجتمعاتهم الطبيعية في اندماجهم في تلك المجتمعات الافتراضية ، حيث العلاقات غير المرئية تمتد أفقيا دون حواجز ودون حدود ، فكان اندياح المكان سبيلا لانزياح الكثير من القيم التي تثقل جموحهم ورغبتهم في الحوار دون رقابة أو شروط ، كما شكل هذا التواصل نافذة أوضح لرؤية المستقبل دون تشويش الأيديولوجيات، أو الالتزامات الاجتماعية، أو أوهام السيادة الوطنية التي بذريعتها صودرت كل رغبة لديهم في الانفتاح وأثمت . كان تحطيم المكان مدخلا لتحطيم المفهوم الجغرافي المحض للوطن ليحل مكانه الكرامة كمفهوم جوهري لمعنى الوطن .
ولذلك نرى الحوار الآن بينهم وبين الأجيال السابقة حوار طرشان ، لأنه بين بنيتين ثقافيتين مختلفتين ، حاول أن يروضهم بن علي بإعلانه فهمه لهم وهو في الواقع لم يفهمهم إطلاقاً ، وحاول حسني مبارك بخطبته العاطفية أن يطرح نفسه كأب تمرد عليه أولاده ونكروا فضله، لكنه لم يعرف أن العيال كبرت وأن عليه أن يترك لهم الطريق ويركن إلى كتابة مذكراته.
ولم يعرف أن مفهوم الأب المقدس لم يعد يعني لهم شيئا وهم يفتحون عيونهم على الحاضر والمستقبل. وأنهم طيلة هذه الفترة كانوا يعطون يظهورهم لمؤسسات الإعلامي الرسمي التي كان شغلها الشاغل تأكيد هذه الأبوية ، وبث مزيجا من الرضا والخوف في أرواح الناس.
قدم هذا الجيل دروسا في القطيعة مع الثقافة السابقة ، دروسا في الشجاعة ، في التنظيم ، في الاحتجاج السلمي ، وفي الوعي ، وبدا نجاحه مذهلا للعالم المستبد والعالم الديمقراطي في الوقت نفسه.
والتناغم الذي حصل أن هذا الجيل الذي رضع من الثورة المعلوماتية، هيأت له هذه الثورة نفسها ، وعلى مهل، المناخَ الذي يستقبل مغامرته المحسوبة .
فبعد عقود من زخم هذه الثورة المعرفية ، ومن العولمة وانحسار الحدود ، وضرب مفهوم السيادة الوطنية ، وتحرر وسائل المعرفة والتعبير ، وفرار الصحافة من سلطة الورق والمؤسسة ليصبح كل فرد من هذا الجيل صحفيا ، بعد كل ذلك أصبح استمرار الأنظمة السياسية الشمولية والدكتاتورية مجرد خرافة تجاوزها الزمن وتعيش أيامها الأخيرة، لأنها كانت تستمد جبروتها من العزلة ، ومن السيطرة على المعلومة والخبر ووسائل التعبير . ومثلما أنهى العصر الصناعي سلطة الإقطاع ليبدأ عصر الجمهوريات ، سينهي العصر الرقمي سلطة الدكتاتوريات المتأخرة، ليبدأ عصر الديمقراطيات الجديدة .
جاءت الثورة التونسية ملهمة ، والتي تعتبر الثورة الثانية الملهمة بعد الثورة الفرنسية، وما بين ذلك عديد الثورات التي لا تخلو من التباسات جعلتها عقيمة ، فألهمت الثورة في مصر ولتغدو ثورة مصرية وبروح مصرية ، حيث الصلابة والصبر وخفة الدم التي ظهرت في تلك اللافتات الفكهة وحفلات ميدان التحرير ، والتهذيب في أقصى درجات الغضب الذي يجعل الغاضبين يقولون: على (السيد) الرئيس أن يرحل . أو (سيادته) لازم يتنحى. إنها نكهات محلية جعلتها ثورة مصرية بامتياز ، والنظام من جهته كان بستدعي صورا من تراثه القمعي مستخدما البلطجية والفتوات .
مثل هذه الثورات لا تتوقف عند حد وكل شعب تلهمه يصبغ عليها روحه وهويته ، لأنها تملك كل عناصر الإلهام والتصدير في داخلها ، ليس على المستوى العربي فقط بل على المستوى الكوني، هذه الشحنة من الإلهام التي جعلت أوباما يقول : (أن ثورات الشباب في مصر ستلهم شباب العالم وحتى في أمريكا نفسها). لأنها تمثل قطيعة جيل كوني مع وصايا الآباء وميراثهم، ولأنها تشكلت في كنف شبكة معلوماتية جعلت من العالم قرية ، ولأن ثمة أجيال غاضبة، في كل مكان، من التهميش، ومن تلاعب الميديا بعقولهم، ومن الحروب، ومن أشباح الأزمات الاقتصادية .
أجيال تتحاور وتنشيء الصداقات ، وتعرف أن كل ما روجه الآباء من أقدار ما هي إلا تواتر أزمة تاريخ يعيد إنتاج نفسه في جغرافيا لم تعد كما هي .. صراع الأديان والأيديولوجيات أو صدام الحضارات أو تضارب المصالح ، ما هي إلا أوهام يتم ترويجها من أجل تكريس سلطة الأقلية المستفيدة من هذه الصراعات . لأنه جيل كوني بدا يدرك أنه أمام أخطار مشتركة تهدد وجوده بالكامل مثل التلوث البيئي وسباق التسلح . لأنه جيل تربى في كنف التحاور المباشر دون وسيط إعلامي وبعيدا عن تحذيرات الآباء من الخروج إلى الشارع أو من السهر أو من رفاق السوء . جيل خرج من القمقم ولن يعود إليه .
وهذه المرة كان الآباء يأكلون الحصرم والأبناء لا يضرسون
هوامش :
ـ فتاة مصرية تقول أنها أول مرة تخرج إلى الشارع دون أن يتحرش بها الشباب .
ـ شاب مصري يقول : نصف ثورة يعني أن تحفر قبرك بنفسك .
ـ وائل غنيم يقول : في الأمن المركزي وجدت ضباطا يحبون الوطن ، ونحن نحب الوطن ، لكن النظام المستبد جعلنا على طرفي النقيض .
ـ حقوقي تونسي بقول : أخذت عهدا على نفسي أن لا أطلق على بن علي إلا جملة الرئيس السابق .
ـ خبر موثوق به يقول أن أولاد بعض السياسيين النافذين موجودون في ميدان التحرير .
ـ لافتات من ميدان التحرير : (ارحل يا حسني عاوز أروح الحمام) ، (ارحل يا حسني عاوز أشوف مراتي).
ـ فتاة في ميدان التحرير تقول لمذيعة مصربة: عمرك شفت ثورة بخفة الدم ديه ؟
ـ أحد البلطجية يقول : أولاد الكلب جعلوني أحارب شقيقي في ميدان التحرير .
ـ شاب فوق صارية مرتفعة في ميدان التحرير يحمل علم مصر وعلم الفيس بوك .
* كاتب وشاعر من ليبيا
08-أيار-2021
15-شباط-2011 | |
25-تشرين الأول-2010 | |
23-تشرين الأول-2010 | |
05-كانون الأول-2009 | |
01-كانون الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |