مصنعُ السعادة
2009-10-19
لقاء معتّز الدمرداش مع الفنانة والإعلامية نجوى إبراهيم في برنامج 90 دقيقة كان له فرادتُه وخصوصيتُه. من حيث أنه لقاءٌ جمعَ وجهين طِفلين؛ لن تطالهما الشيخوخةُ أبدًا. تلك منحةٌ تمنحها السماءُ لبعض أبنائها من البشر ممن يقبضون أبدًا على شمعة الطفولة ألِقَةً وهّاجةً داخل قلوبهم، وإن بلغوا مائة عام. يمتلك معتّز تلك المنحة الإلهية، مثلما تمتلكها ماما نجوى بوجهها العَذْب الطفل.
سألها معتز ماذا تعني بأنها تمتلك مصنعًا للسعادة. فأجابته أن ثمة الكثيرَ مما يحدث لنا قمينٌ أن يمنحنا السعادةَ، لكننا ندعه يمرُّ دون تبصّر. مجرد أنْ نصحوَ من نومنا، بعد ميتتنا الصغرى نيامًا، شيءٌ مبهج، أنْ نكتشف أن بوسعنا أن نحرّكَ أطرافَنا، ثم ننهضَ من الفراش، ثم نتعاملَ مع يومنا دون حاجة إلى من يحملُنا أو يساندُنا، أن نتكلمَ، أن نفّكرَ، أن نحْلُمَ، أن نعملَ؛ كلُّ هذه عطايا من السماء، ومتعٌ ومباهجُ كبرى؛ فكيف نسمح للغضب، بعدئذ، أن يغمرَنا لمجرد أنَّ أحدَهم، مثلاً، زاحمَنا في الطريق، أو كشّرَ في وجهنا، أو أخذَ مكانَنا في طابور، الخ؟ هذه صغارات تتضاءلُ جوار المِنَح السماوية العُليا التي نمتلكها ضمن مصنع السعادة الضخم الذي مفتوحٌ داخلَ أرواحنا، ينتظرُ أنْ نُفعّله.
هذا الإدراكُ العميق لفكرة الفَرح والبهجة، لا يمتلكه إلا من أصرّوا على القبض على الطفل الذي في أرواحهم. نحن نسمحُ للطفل داخلنا أن يكبرَ وينضجَ ويَهرمَ ويشيخَ ثم يموت، ونحن بعدُ في شرخ الصبا! وهو ما يقتلُ معه، أوتوماتيكيًّا، القدرةَ على الشعور بالفرح والدهشة من موجودات العالم. نحن من يغلقُ بإرادتنا "مصنع السعادة" لأجل غير مسمى، ويطرد، مع إغلاقه، ويشرّد آلافَ العمّال الذين كانوا يعملون من أجلنا مجانًا لوجه الله تعالى، ولوجه الجمال والحب والفرح. أولئك العمّالُ هم الروحُ والعقلُ والأعضاءُ، والأهمُّ هو الوعي بفكرة الفرح وانتزاع البهجة عنوةً من الحياة، حتى ولو كانت كل دفوعاتها تدعونا للكآبة والحَزَن واليأس.
سأحكي لكم قصةً من الفولكلور تحمل جانبًا مشرقًا، وجانبًا عدميًّا. كان أحد الفقراء يجلسُ في جزيرة يصطاد سمكة، وتكسو وجهه سيماءُ الراحةِ والسعادة. مرّ به أحدهم وسأله لماذا يجلس هكذا؟ فقال لكي أصطاد سمكةً وأستمتع بوقتي. فقال له الثاني: لماذا لا تصطاد سمكًا كثيرًا بشبكة كبيرة ثم تبيعه، بدلاً من اصطيادك بصنارة سمكةً واحدة لتأكلها؟ فقال الأول: ثم؟ فأجابه، ثم تبيع وتبيع حتى تشتري قاربًا للصيد. فسأل الأول: ثم؟ فأجابه: ثم تثرى وتشتري أسطولاً للصيد، ثم أساطيلَ كثيرة. فسأله الأول: ثم؟ فقال الثاني: ثم تثرى جدًّا فيكون بوسعك أن تشتري هذه الجزيرة التي تجلس عليها، ووقتها تقدر أن تستمع بوقتك وتصطاد سمكة بصنارة! فأجابه الأول: ها أنا ذا وصلتُ الهدفَ النهائيَّ دون كلِّ الجهد الذي تريدني خوضَه!
بالحكاية جانبٌ عدمي سلبيٌّ كسولٌ بالطبع، وأنا من الذاهبين إلى أن العملَ هو أصلُ السعادة في الحياة والشعور بالثقة والامتلاء. لكنني أشيرُ إلى فكرة المقدرة على اقتناص البهجة حتى في أحلك الظروف ومع أقصى وأقسى درجات الفقر والعَوَز.
التفاؤلُ والبحثُ عن نقاط النور وسط العتمة مَلَكةٌ كبرى، لا يمتلكها سوى الكبار. الكبارُ روحًا ووعيًا. أولئك القادرون على تدليل الطفل الذي يربض في قلوبهم فلا يسمحون له بالكِبَر أبدًا. من أولئك، وعلى رأسهم، يقفُ المفكر المصري الكبير محمود أمين العالم. لم نره إلا مبتسمًا متفائلاً. رغم أن وعيه السياسيَّ الفائق كان يجعله مدركًا حلكةَ اللحظة التاريخية المظلمة التي نحياها. كان يبتسم مراهنًا على غدٍ مشرق، لم يره هو، وربما لن نراه نحن، هو الذي تشقّق ظهرُه بسياط معتقلات 59، هو الذي خسر رهاناته وشهد انهيار حلمه الاشتراكي بعينيه. تجده يمازح البسطاءَ في الشارع، وينادي على بواب العمارة وبائعة الخضر وسائس الجراج بأسمائهم ويسألهم عن أولادهم وأحفادهم، وابتسامةٌ طفلةٌ ترقصُ على وجهه الجميل. هو الذي لم يسمح لطفل روحه أن يهرَم ويشيخ، لذلك مات شابًّا يافعًا، في الثمانين من عمره.
النشر الورقي المصري اليوم
النشر الألكتروني خاص ألف
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |