لا شيءَ يشبهُني
2009-11-10
الظاهرُ أنني بالفعل بعيدةٌ جدًّا عن الحياة، كما اعتاد أصدقائي أن يقولوا. تشرنقتُ داخل حدود مثلثٍ صلب حادِّ الزوايا غير منفذ للضوء. أضلاعه: بيتي وعملي والكتاب. تقوقعتُ داخل كهفي المثلث فغاب عني أن أتابع التطورات المذهلة المتسارعة التي تجري على أرض مصر وفضائها. لكنني انصعتُ مؤخرًا لنصيحة أصدقائي وبدأت أتابع التليفزيون، بعض الوقت. وأذهلني ما رأيت وما سمعت!
تجد فتاةً وفتى يزعقان بنبرة مَن ملك زمام الأمور قائليْن للجمهور: "أحلامكم كتير وكنوزنا برضو كتير، زي ما عودناكو على الأحلام في عالم الكنوز. 100 جنيه دهب، 100 ألف جنيه 100 لاب توب و100 موبيل... للعثور على الكنز اتصل بينا عشان نحقق أحلامكو وتطلعوا معانا على الشاشة، اتصل هتخسر ايه؟"
ما هذا؟ هل بالفعل عوَّدَنا هؤلاء على الأحلام؟ ثم على تحقيقها باتصالات تليفونية؟ هل صار من اليسير استلاب العقلية المصرية واستنزاف جيوب أبنائها بتلك الخدع الساذجة؟ العقليةُ المصرية التي أنجبت مصطفى مشرّفة، وزكي نجيب محمود، وطه حسين، وأحمد زويل، والبرادعي، وسهير القلماوي، ومجدي يعقوب، وسواهم العديد من عقول أدهشت العالم! لاحظوا أنني أتكلمُ عن أمجاد اليوم والأمس القريب، ولم أعرض لحضارتنا الفرعونية التي زلزلت أركان الأرض، كي أقطعَ الطريقَ على أعداء الكلام عن الماضي وأمجاده المندثرة. هذه الحيل الساذجة قد تُغري بعض إخواننا أولئك الذين دبّتِ الثرواتُ فجأة في جيوبهم بضربة حظ جيولوجية، فأدمنوا الرِّهان على المصادفات. لكن المصريَّ صانعُ حضارة، يزرعُ طعامَ يومه بفأسه، ويخبز خبزَ أولاده بيديه، ليس ابنَ مصادفةٍ أو ضربةِ حظ، فلمَن يتوجه هؤلاء المُعْلِنون؟!
قال محمود درويش عن مصرَ والمصريين: "أنا ابنُ النيل، هذا الاسمُ يكفيني/ ومنذ اللحظة الأولى تسمّي نفسَك "ابنَ النيل" كي تتجنبَ العدمَ الثقيل/ هناك أحياءُ وموتى يقطفون معًا غيومَ القطن من أرض الصعيد/ ويزرعون القمحَ في الدلتا/.../ هل عرفت الآن نفسَك؟ مصرُ تجلسُ خلسة مع نفسها/ لا شيء يشبهُني."
ثم تقف امرأة فاتنةٌ ممشوقة القدّ، مُنتقاةٌ بعناية لحُسنها، لتشدو: "أنا راح أغني كليب/ كله كلام مغلوط/ وانتوا تقولوا أوام/ الاسم المظبوط/ أنا مش شوقية/ أنا حمدية أنا شكرية/ أنا حلوة ومهلبية/ أنا باعرف أعمل ملوخية...، اتصلوا بنا وقولوا اسم الأغنية تكسبوا ألف دولار."! ثم يأتي "خط الفرفشة"! "اتصلْ برقم كذا تسمع أحلى نكتة! خط الفرفشة عملناه مخصوص علشان تضحك وتريّح بالك." !!!
والسؤالُ لا يبرحُني: مَن يخاطِبُ هؤلاء؟ المصريون؟ معقول؟ وكيف سمحت وزارةُ الإعلام بهذا الرِّخَص والتدنّي والاستخفاف بالعقل المصري والاستهانة بوعيه وعقله؟ أرفعُ، عبر مقالي هذا، مطلبًا مباشرًا لوزير الإعلام المصريّ أن يحظر إذاعةَ كلِّ تلك الإعلانات الركيكة، وكلِّ إعلان يستخفُّ بوعي المواطن المصري ويعمل على تفريغ روحه وثقافته. وفي المقابل يجب عليّ أن أشيد بالفقرات التنويرية التي تعمل على إذكاء وعي الناس بحياتهم مثل تلك التي تحثًُّ الشباب على مساعدة كبار السن، أو على الاجتهاد وتحقيق الأحلام بالعمل، أو تحديد النسل المنفلت، الخ.
يقول هتلر في كتابه الداهية "كفاحي": "الدعايةُ على جانب عظيم من الأهمية، فهي أداةٌ لتنوير الأذهان من جهة، ولخداع من يُراد خداعهم من جهة ثانية. وهنا "يجب أن تتوجه الدعايا إلى حواس الشعب لا إلى عقله."
لابد أن من صمّم إعلانات كهذه قد قرأ هذا الكتاب، خاصة مبدأ التكرار الذي يقول: "بثُّ الأفكار التي تُنقشُ في ذاكرة الناس بالتكرار." لكن هتلر العنصريَّ كان قد اعتبر أن كلَّ الجماهير في العالم، عدا الآريين الألمان، من السوقة والرعاع الذين يجب سَوْسُهم والسيطرةُ عليهم، أو حتى إبادتهم إن كانوا يهودًا. ذاك أن البشرَ، وفق هتلر، ثلاثةُ أقسام. صانعو ثقافة، وهم الجنس الآري أي الألمان، مستهلكوا الثقافة؛ مثل اليابانيين، ثم مدمري الثقافة؛ مثل اليهود والزنوج. فيا تُرى أي قسم من تلك الأقسام يرانا منتجو هذه الإعلانات، نحن مشاهديها المصريين؟
النشر الورقي المصري اليوم
النشر الألكتروني خاص ألف
فاطمة ناعوت
[email protected]
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |