وتركنا العقلَ لأهله!
2009-11-24
قالتِ العربُ الكثيرَ عن الحُبّ. وأجملُ قصائد الحبِّ عربيةٌ. يبدو أن الطبيعةَ الصحراوية، بسكونها وشساعتها وغموضها ورهبتها، بوهج رمالها تحت هجير الشمس نهارًا، وظلمتها الموحشةِ ليلا، إلا من نجوم تنتثرُ على صفحة السماء، وقمرٍ يتوسّطُ جبهتها، مثل قنديل ينتظره المحبّون ليبثّوه أخبارَهم وشجواهم، يبدو أن تلك الطبيعةَ الفريدةَ ساهمتْ بشكل أساسيّ في جعْل العربيّ يستجيرُ بالحبّ الحنون الرغد الأخضر من قسوة الصحراء وصُفرتها. وجعلته، من ثَمَّ، يفتّش في أسرار الهوى، ويصنّفه ويرسم له لوحاتٍ وخرائطَ وجداول، ويؤرشفه ضمن مراتبَ ودرجاتٍ ومستويات.
يقول منصور الثعالبي عن مراتب الحب، في كتابه الجميل "فقهُ اللغةِ وسرُّ العربية": إن أوّلَ مراتبِ الحبّ الهوى؛ أي المَيْل، ثم العَلاقةُ؛ أي أن يَعْلَقَ القلبُ بالمحبوب، ثم الكَلَفُ؛ وهو شِدّة الحب، ثم العِشقُ؛ وهو ما يزيد عن مقدار الحب، ثم اللوعةُ؛ وهي إحراقُ الحبِّ القلبَ، ثم الشَّغَفُ؛ وهو أن يبلغَ الحبُّ شغافَ القلب، أي غشاءه الخارجيّ، ثم الجوى؛ وهو الهوى الباطن، ثم التَّيْم؛ وهو استعباد الحبِّ للإنسان، ومن هذه المفردة أن نقول: "تَيْمُ الله"، أي عبد الله، وأن نقول: رجلٌ مُتَيَّمٌ، ثم التَّبْلُ؛ وهو أن يُسْقِمَ الهوى الإنسانَ المُحِبَّ، ومنها نقول: "رجلٌ مَتْبول"، ثم التدْليهُ؛ وهو ذهابُ العقل من فرط الهوى، ومنها رجلٌ مُدَلَّهٌ، ثم الهُيومُ؛ وهو أن يهيمَ المُحبُّ على وجهه من فرط الهوى، ومنها رجلٌ هائم.
ونعرفُ الكثيرَ من قصص الهوى العربية، وطبعًا غير العربية، تلك التي تحكي لنا عن جنون المُحبين وسلوكاتهم التي نَصِفُها بالطيش والرعونة. ولا شك أن كلاًّ منكم شَهِد بنفسه نادرةً أو نادرتين من نوادر المحبين من حولنا. أنا شخصيًّا أعرفُ شابًّا مجنّدًا هرب من معسكره ليلةَ عيد ميلاد حبيبته؛ ليقفَ تحت شرفتِها ويعطيها وردةً، ثم يعود إلى ثكنته ويُسجَن، فيتلقى ظلمةَ محبسه بنَفس راضية. نفس أحبّتْ وارتوتْ بنظرة رضًا من عينيْ الحبيبة. وأعرفُ شابًا تسلّل من بيروت إلى الأردن، أيام حصار بيروت الشهير، ليقرأ على حبيبته قصيدةً كتبها في عينيها. فتعتقله شرطةُ الحدود، ويمكثُ خلف جدران المحبس شهورًا، ما فكر خلالها إلا في كيف يوصلُ أوراقَ قصيدته إلى الحبيبة البعيدة. ويحدثنا الأسبانيُّ أنطونيو جالا في روايته الفاتنة "الوَلَه التركي" عن امرأة تتبعّت شغفها الخاصَّ غير عابئة بالمنطق ولا بالعالم.
ماذا تسمّون هؤلاء المحبّين وسواهم ممن ركبوا فَرَس الجنون الحرون من أجل مَن يحبّون؟ مجانين؟ طائشون؟ فاقدو عقل ومنطق؟ اِطلِقوا ما شئتم من نعوتٍ، أما أنا فأقول، وحسب، إنهم أحبّوا واتّبعوا حَدسَ قلوبهم. كانوا أنفسَهم، فنسوا المنطق. ومَن قال إن بالحبِّ منطقًا؟!
وخروجًا من شرنقة العشق الضيقة الخاصة بالمرأة والرجل، لنشارفَ حالاتِ العشق الأرحب. عشق الفكرة، عشق المبدأ، عشق الجَمع، عشق الوطن، نحكي أكثر عن جنون الهوى. حينما صام المهاتما غاندي، بجسده النحيل،عن الطعام شهورًا، وعندما مشى حافيًا 400 كم في مسيرة الملح، عاريًا إلا من شال بسيط لا يقيه بردًا ولا حرًّا، ما كان مجنونًا، بل عاشقٌ من طراز رفيع. عاشقٌ قومَه، وفكرةَ الحريّة. كذلك كان محمود أمين العالم، حينما تلقّى على ظهره سياطَ السَّجّان، والابتسامةُ لا تبرحُ وجهه العذب، كان عاشقًا مصرَ، وعاشقًا هذا الجلاد ذاته! لأنه يعرف أن الجهلَ والتضليل هو عدوهما معا. هو العدو الذي يُلهبُ ظهره بالسياط، وليس ذلك البائس الجاهل المُضلَّل، الذي يحمل السوط.
لماذا تذكرت كل هذا اليوم؟ لأنني، أنا التي يرميني أصدقائي بالمنطق والصرامة في إعمال العقل، أتيتُ، شيئا طائشًا مثل ما سبق. دُعيتُ للمشاركة بأمسية شعرية في معرض الكتاب الدولي بالكويت في الفترة بين 28/10- 7/11. وتزامنتْ، ضمنَ هذه الفترة، مشاركتي في مؤتمر ببيروت تقيمه الحركة الثقافية أنطلياس في الفترة من 4- 8 نوفمبر. قررتُ العودةَ من الكويت يوم 3 نوفمبر لأسافر إلى بيروت اليوم التالي. عرض عليّ منظمو مهرجان الكويت أن تكون تذكرة عودتي: الكويت- بيروت، فهذا منطق الأمور. رفضتُ وعدتُ للقاهرة، ومنها لبيروت! لماذا؟ لأنني لا أقدرُ أن أسافرَ إلى أيّ بلدٍ إلا عبر مطار القاهرة! لابد أن تودِّعَني مصرُ، ولا بلدَ سواها! ورماني الأصدقاءُ بالخَبل وقِلّة العقل! وقلتُ بل هو لونٌ من الشغف عميق! وتركتُ العقلَ لأهله.
المصري اليوم
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |