القصة مرآة في شجرة الحياة
خاص ألف
2009-12-02
في" شجرة الحكاية " - حيث الحكاية , حديث عن الغير على لسان القاص – يعمد عبد الهادي الفحيلي لقلب الأدوار لتصبح الحكاية حديث القاص لذاته , حوار بين الصوت والصدى , بين الذات المتكلمة والسامعة بنفس الوقت وكل هذا لينصب شركا للقارئ لكي يعترف بمضمرات نفسه عبر ضمير المتكلم الذي كان الصوت الوحيد في القصص وإن ظهرت بين فينة وأخرى أصوات لضمائر أخرى كانت تمر بمعيته وشروطه .
ضمير المتكلم الذي يرخي بظلاله على القارئ سيجبره في نهاية القصة على تلمظ ذكرياته ومقارنتها بما قرأه ومن ثم مساءلة تلك الذاكرة التي هي عماد هوية كل شخص : هل حقا , أنا ما أنا عليه ؟!, وهل أستطيع أن أقول هذه ذاتي بعريها أم تلك ذاتي تتدثر بكل تلك الأقنعة؟!.
في قص" ذكرى من لهب " بعد غياب أربع سنوات يعود من غيابه عنها وتعود هي متسربلة بحجاب الصمت إليه , يكادان لا يتعرفان على أطلال العلاقة التي جمعتهما يوما , يلملم حجارته المبعثرة في ملامحها وتناوله ملاط الرغبة المخبأة في بقائها , يعيد توجيه وجوه العلاقة في حوار داخلي يفكك ما حدث ليقيم القادم وعبر ذلك يكتشف كم ابتعد ويدرك كم هي انكمشت , فيعيد ضبط عداد الذاكرة من جديد " في الصباح, وأنا أستعد للخروج إلى العمل, أمي أعدت الفطور على المائدة الصغيرة في بهو البيت, كانت خارجة من الحمام تمسح الماء عن وجهها وذراعيها الأبيضين بلون الثلج, الجزء الأمامي من شعرها نافر من المنديل المرمي على رأسها بلامبالاة. ابتسمت في وجهي بعذوبة وعيناها تهمسان لي بشبق. ألقت علي تحية الصباح والثوب إياه يكاد ينشق عن جسدها الأرعن. قالت لها أختي التي كانت في كامل هندامها للذهاب إلى العمل: "أسرعي في الصلاة كي تفطري, لقد تأخر الوقت!!".
ولأن الأنا هي مجمل ضمائر المحيط المعيش لكنها ليست هي , يزج الفحيلي قاصه في تلك الضمائر وخاصة ضمير الأب وخاصة في قص " شأن ما" و" الدموع" فهذا الأنا العلوي الذي يبسط سماءه الصافية حينا أو المكفهرة كثيرا من الأحيان على حيوات الأنا بقدسية يعاضده فيها
محيط تعيش فيه هذا الأنا على وقع نهار وليل تلك الأنا العلوية , فكان لابد لها من تعرية موقفها ليصبح عري الأنا العلوي مقبولا ومن ثم تجاوزه , ففي قص " شأن ما " الأب لا يرى في ابنه إلا الفشل في حين يرى الآخر النجاح في هذا الولد وعبر هذا التناقض وتحت تأثير ضغط رأي الأب يتخلى الابن عن طموحه والسبب في ذلك يعود لذلك الأب الذي ألبس ابنه صفة الفشل , لأنه قد سبقه في لبسها , وفي لقاء ليس بالعابر ولا بمحض الصدفة يلتقي الحاكم والمحكوم بالفشل , وهنا يمتلك الابن ناصية الاعتراف على نفسه وعلى أناه العلوي وبذلك يتخلص من تلك الصفة ليخلفها مع ذلك الشحاذ ...." هاأنذا الآن شأني يكبر مع النبذ و التشرد أوقع على سبيل النزيف بخطوات تترنح بين أنفاسها الخائبة, يأتيني صوت يتلبس الفقر والمسكنة يقتحم سجف الغياب الذي أرميه علي:"شي صدقة أوليدي الله يعلي شانك". أنظر إلى مصدر الصوت, شبح يلفه الضباب لا أستطيع فك عناصره. حتى لو كان عندي ما أعطيه فلن تأخذه أبدا. هذه "الشان" لا أحبها. لو أستطيع أن أحذفها من جميع قواميس الأرض؟؟؟؟".
كذلك في قص " دموع" حيث أبكى الأب بتجلياته سطوته كل من حوله ؛ولكن عندما بكى الأب , وهذا هو الغريب , يتكشف للابن ,أنه كان يبكي على جسد زوجة أخيه الميت الذي احتضنها في لحظة عزاء؟!.
هكذا يمرر الفحيلي قاصه على مرايا الضمائر بما فيها المكان والزمان , لتتجلى الثورة النهائية لقاص الفحيلي التي يضع القارئ فيها, تحت سؤال متى تقول للزيف الذي يملأك : كفاية !! , فيكتب في قص" الرمل " قبل نقطة نهاية السطر" "إني أختزن لكم في داخلي صحارى هائلة من الرمل!!".
لاريب أن هكذا نوع من القص يندرج تحت ما يسمى " تيار الوعي وتعدد المنظور" ويستبطن المضمون السيكولوجي وكأن القاص يضطجع على كرسي محلل نفسي يسمعه ويُسمع نفسه خفاياه عبر لغة هامسة رغم صخب الأحداث التي تتناولها وشعرية تجعل الانفعال الدرامي مثمرا وبحكم طبيعة التشابه بين الحيوات البشرية تصبح ضرورة الأتيان بزواية جديدة للمقاربة من أسس نجاح العمل وهذا ما وفق فيه عبد الهادي الفحيلي لدرجة جيدة بحيث تضعه هذه المجموعة القصصية على طريق التميز في عالم القصة .
وإن كان هناك تشابها ما في زوايا المقاربات كما ذكرنا ,لايضير هذه المجموعة فبنيتها الجيدة ولغتها تسد مسد بعض الهنات القليلة, وهكذا بقدر مااستطاع الفحيلي تقديم زوايا جديدة للنظر , جعل القارئ يكتشف أناه عبر قصها.
"شجرة الحكاية" مجموعة قصصية ل عبد الهادي الفحيلي لعام 2009 صادرة عن دار
التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع المغرب
باسم سليمان
[email protected]
××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
08-أيار-2021
29-كانون الأول-2018 | |
02-حزيران-2018 | |
17-آذار-2018 | |
23-كانون الأول-2014 | |
04-آذار-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |