Alef Logo
يوميات
              

المحطةُ الأخيرة

فاطمة ناعوت

2009-12-08

بعد أيام قليلة، كانت مهاتفاتٌ لابد ستتمُّ بين الأبنودي والرخاوي والغيطاني والقعيد والمعلّم، لتنسيق عيد ميلاد الأستاذ. ولو عُدنا بالزمن عقدين للوراء، لانضمَّت مهاتفاتٌ من حرافيشَ قدامى: توفيق صالح، أحمد مظهر، ثابت أمين... وإنْ رجعنا بالزمن أكثر حتى 1961، لشهدنا أولَ عيد ميلاد لنجيب محفوظ منذ ولادته عام 1911، أقامه الأستاذ هيكل، لبلوغ محفوظ الخمسين، بحضور أم كلثوم، وتوفيق الحكيم، وصلاح جاهين.

أجملُ ما في كتاب "المحطة الأخيرة"، الصادر عن الشروق، أن مؤلفه أخفقَ فيما رمى إليه! حاولَ المؤلفُ أن يسردَ تفاصيلَ "المحطة الأخيرة" في حياة رمز مصريّ كبير، سردًا توثيقيًّا مُحايدًا، إيمانًا منه بأحقيّة كلِّ مصريّ، وكلِّ عربيّ، بل كلِّ مهتمٍّ بالأدب في العالم، في أن يقفَ على آخر أيام عظيم مرَّ على هذا الكوكب. لكن طبقةَ الحياد الشفيفة تلك، أظهرت من وراءها وجعًا نبيلاً احتلَّ قلبَ رجل يشهدُ احتضارَ أبيه، فيما يداه مغلولتان عن إنقاذه.

المؤلفُ صاحبُ فكرة تشييد تمثال لمحفوظ في ميدان يحمل اسمه. الكاتبُ المسرحيّ محمد سلماوي، أكثرُ المقرّبين من محفوظ، إذْ امتدّت علاقتهما ثلاثين عامًا، وسلماوي بعدُ يخطو خُطاه الأولى في دنيا الكتابة والصحافة. اختاره محفوظ، العَزوفُ عن السفر، لاستلام جائزة نوبل نيابةً عنه عام 88. فأصرَّ سلماوي على اصطحاب أم كلثوم وفاطمة، كريمتَيْ محفوظ، إلى استوكهولم لتحملا درعَ أبيهما، بينما يُلقي كلمةَ أديب مصر الكبير. أن يمرَّ كاتبٌ شابٌ بتجربة ارتقاء منصة الأكاديمية السويدية، أمام الملك، تجربةٌ لا شكَّ فريدة، تحفرُ في النفس طوطمًا يقول: إن الجديّةَ والاشتغالَ على النفس، يصنعان النجاح.

على مدى خمسة وأربعين يومًا، ظَلَّ سلماوي يرى أباه الروحيّ يزوي وينطفئ شيئًا فشيئًا، على سريره بمستشفى الشرطة المواجهة نيلَ مصر الخالد. لكنه، شأنَ كتّاب مسرح العبث، راح يخدعُ نفسَه بأنَّ ما يراه من ذبول ليس إلا وعكةً عابرةً سيقومُ الشيخُ الجليلُ بعدها معافًى مرحًا ساخرًا كما اعتاد أن يراه. في اليوم الأخير، ومثلما يفعل يوميًّا، سأل الأطباءَ عن حال الأستاذ، فانقسم التوصيفُ بين متناقضيْن: الحالُ مستقرةٌ-الحالُ حرجة! يدخلُ فيجدُ الأستاذَ فاقدًا الوعي؛ لا يشعرُ بمَن حوله. يقتربُ منه، يكلّمه بصوتٍ عال: "ازيك يا أستاذ نجيب؟" في يده كتاب "أحلام فترة النقاهة" الذي طُبع بالأمس، يذهبُ به كلَّ نهار أملاً في لحظة وعي من الأستاذ، لكي يُدخلَ البهجةَ إلى قلبه. لحظةُ الوعي لا تجيء. وسلماوي يُصرُّ ألا يصدّقَ أنها النهاية. يحكي للنائم في غيبوبته عن جمال الغلاف، وصورته قابضًا على عصاه. يشرعُ في قراءة حلمٍ أو اثنين، ثم يوهمُ نفسَه بأن الأستاذ سمع، وابتسم!

يخرجُ باحثًا عن وحدته على نيل مصر. ثم تأتي الفقرةُ الأبدعُ في الكتاب: "هذا شارعُ النيل، وفي الوقت نفسه شارع جمال عبد الناصر. مثله مثل أشياء كثيرة في بلادنا تحملُ أكثرَ من اسم، ولها أكثر من وجه. لماذا لا نكون محدَّدين؟ ولا نعرف الحقيقة؟ هل الأستاذُ في حالٍ خطرة، أم حالُه مستقرة؟ هل هذا الشارعُ هو النيل، أم شارع جمال عبد الناصر؟" هذا التراوحُ المدهشُ بين الموضوعيّ والذاتيّ من جماليات تيار الوعي. هو استسلامٌ خَدِر لحال التأرجح الناعمة بين الوعي واللا وعي، بين العقل الحاضر والعقل الباطن، هو هروبٌ من صدمة الواقع الجارح، والإنصات لعمق الروح السحيقة، حيث تكمنُ الأحلامُ والمُنى. ثم يعاود الكاتبُ خداعَ النفس وإيهامَها بأن كلَّ شيء على ما يُرام: "وصلتُ إلى قرار بأن أختار الحقيقةَ التي تعجبُني. هذا شارع جمال عبد الناصر، فالنيلُ ليس بحاجة إلى أن يُسمى شارعٌ باسمه! ونجيب محفوظ حاله مستقرة. هذه هي الحقيقة... حين يصحو الأستاذ سأخبرُه أنني وجدتُ مقهًى قريبًا من منزله يرى النيل."

فرادةُ الكتاب، ليست، وحسب، في تسجيله لحظاتِ وجع محفوظ واحتضاره، بل وجع الذين عايشوا هذا الاحتضار النبيل، مِن أحِبَته وتلامذته.

يا الذي قال: "الموتُ لا يُجْهِزُ على الحياة!" : كل سنة وأنت طيب، حيثما تكون!

النشر الورقي جريدة المصري اليوم

النشر الألكتروني خاص ألف








تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow