رجلُ الفصول الأربعة
2009-12-22
قبل عامين، كتبتُ في عمودي هنا مقالا عنوانُه: "انظرْ خلفك في غضب!" قلتُ فيه: "منذ غلاء الأسعار الأخير، لم يعد أحدٌ يبتسم. الشعبُ المصريّ المشهورُ باحتوائه المحنَ وتحويلِها كوميديا، الشعبُ الساخرُ الذي يجيدُ الابتسامَ وخلْقَ النكتة في أحلك اللحظات، الشعبُ الطيبُ السَّمحُ الجميل، لم يعد قادرًا على انتزاع البسمة من داخله. في الأيام القليلة الماضية راقبتُ كلَّ الوجوه التي اعتدتُها رائقةً باشّة فوجدتُها واجمةً ساهمة. غضبٌ خبيءٌ وتحفّزٌ في عيون الكلّ، تجاه الكلّ!"
فهل يحقُّ لي أن أنقضَ الآن كلَّ ما قلتُه؟ أظنه من حقي! فهذا الشعبُ لا يفتأ يثبتُ رقيَّه وتفرّدَه. رغم الفقر والغلاء وغياب دور الحكومة عن حلِّ أزماته، رغم الأوبئة تحاصره كلَّ يوم جوًّا وبحرًا وأرضًا، رغم قسوة النظام الأمنيّ الذي يهددُ بدلَ أن يحمي، إلا أنه أثبت أنه شعبٌ كريم مُحِبٌّ الحياة.
دلائلي على هذا ألفُ ألفٍ. هذه مريم، الطفلةُ التي دهسها لودر الإزالة في الإسماعيلية، فدخلت على إثرها في غيبوبة كادت تودي بحياتها، التي لم تعشها بعد. وهؤلاء الذين تجمهروا أمام المستشفى من أبناء مصر المعوزين والفقراء والمرضى يمدّون يدَ العون لأسرتها، ويتوعدون بالثأر إن مسّها ضُرٌّ. مصريون يؤازرون مَن لا يعرفون حبًّا في الحياة. نسوا فقرهم وتهديد فيروس حرون غاضب يسبح في هواء الوطن ليحصدَ كل صباحٍ أرواحًا غير معلومة! وهذا نجيب سويرس، ينسى مشاريعه ومصانعه وخسائره، ليتبرع بطائرة خاصة تُقلُّها إلى أي مكان في العالم لتلقّي العلاج الذي وعد بتكاليفه. هنا مصريون، تحت خطِّ الفقر، وفوق مستوى الثراء، اتحدّوا على قلب حبٍّ واحد أمام طفلةٍ تحتضر!
حينما اِغتيلَ السادات، أغلق المصريون البابَ في وجه القتلة، هم ذاتهم الذين كانوا قبل ساعة يفتحون أبوابهم للمتشددين السلفيين رافضين تعنّتَ الحاكم، أغلقوا البابَ واجتمعوا على قلبِ رفضٍ واحد لفكرة الاغتيال. وبالأمس، حينما طار حفيدُ الرئيس مبارك إلى حيث تطيرُ الملائكة، اجتمع الناسُ على قلب حزنٍ واحد لصغير كان يعدُ أسرتَه بكثير الأمل. هم ذاتهم مَن يفقدون أبناءهم، كلَّ ليلة، جوعًا ومرضًا وفقرًا وعوزًا وضياعًا. وها أنا الآن، أجلس مع أسرتي بشرفةٍ بالدور التاسع، نسمعُ ضجيجًا وصخبًا. ننظر من علٍ فنشاهد ميكروباص وقد انقلب على جانبه حاملا معه مَن يحمل من نساء وأطفال وشيوخ. وها هم المارّة البسطاءُ يتجمهرون، والسيارات الفارهة تقفُ لينزلَ راكبوها بياقاتهم العالية ورابطات أعناقهم، يذوبُ الكلُّ في مشهد مدهش يحفرُ الذاكرة. تكاتفَ الكتفُ الفقيرُ جوار الكتفِ الثريّ ليرفعا سويًًّا الكتلةَ الحديدية الضخمة لينقذوا الحياةَ داخلها.
يقول علماءُ الاجتماع إن تحضّرَ الشعوب يُقاس بقدرته على ضخِّ الحياة وقتَ النوازل. ونحن، على هذا، متحضرون بامتياز، رغم اللحظة التاريخية التعسة التي نمرُّ بها.
ولكنْ، ما بالي أُدلِّلُ على جمال المصريين عبر مواقفَ تراجيدية تشارفُ الموتَ بقدر ما تنأى عن الحياة! أليس يتبدى جمالُهم إلا عبر المِحن، وحسب؟ تخبرني الآن صديقتي المخرجة إيمان خضري بالهاتف أنها كانت بالأمس في دار الأوبرا تشاهد احتفالية تراثية يابانية-مصرية. قدّم اليابانيون عرضا راقصًا على شِعر الهايكو الشهير يتناول الفصول الأربعة: الصيف، الخريف، الشتاء، الربيع. وحينما اعتلتِ الفرقةُ المصرية خشبةَ المسرح دبَّتِ الحياةُ في المكان! تفوّق المصريون بلوحاتهم الأربع: الفرعونية والسكندرية والتراثية والفولكلورية، على اليابانيين بمراوحهم الواسعة وشرائطهم الملوّنة، في إشاعة هواءٍ رَخصٍ رغدٍ وحميم، لم تأته آليةُ الجنوب شرق آسيوي. قالت لي: "المصريُّ رجلُ الفصولِ الأربعة!"
لماذا أكتبُ هذا الآن؟ أكتبه تماشيًا واقتناعًا بالحملة النفسية الرائدة التي دشّنتها "المصري اليوم" إعلاميًّا، وبدأها الصديق أحمد المُسلماني بمقاله الأسبوعَ الماضي: "مصريون ضدَّ الحزن". وأُعدِّدُ هنا العديد من "الضِّدَّات" التي يجبُ علينا كأبناء أعرق حضارات الأرض أن نجابهها بحسم رافض: مصريون ضدّ الغضب، ضدَّ العدمية، ضدَّ الإهمال، ضد التفريط، ضدَّ الأنانية، ضد التواكل، ضدَّ القبح، ضد الكسل،...، والقائمةُ تطول؛ حتى يعودَ المصريُّ كسابق عهده جميلا عاملا نافعًا متحضرا.
فاطمة ناعوت
المصري اليوم
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |