اسمُه: عبدالغفار مكاوى
2009-12-28
رمزٌ مصرىٌّ من طراز رفيع. تلك الرموز التى اعتادت مصرُ، على مرّ العقود، أن تهبها للعالمين لتثبتَ أبدًا أن لها اليدَ العُليا على هذا الكوكب، حضاريًّا وفكريًّا، حتى فى أحلك لحظاتها الاقتصادية والسياسية والبيئية. أستاذٌ فى الفلسفة، وكاتبٌ ذو قلم شريف، له العشرات من المسرحيات والمجموعات القصصية والدراسات الأدبية والفلسفية، عدا عديد الترجمات المهمة عن الألمانية لجوته وبريخت وبوشنر.
والحقُّ أنه لو لم يؤلف سوى كتاب «ثورة الشِّعر الحديث» لكفاه لكي يستحقَّ مجدًا لا يزوى، مثلما مؤتمر «أدباء مصر»، فى دورته الرابعة والعشرين، التى تمت قبل أيام فى الإسكندرية، لو لم ينجز المؤتمرُ سوى إعادة طباعة هذا الكتاب المهم، لكفاه لكى نشعرَ أن حِراكًا ثقافيًّا راقيًا يجرى على أرض مصر، رغم اللحظة العسرة.
فى الباص، فى طريقنا إلى الإسكندرية، فتحتُ حقيبةَ المؤتمر فوجدتُ الكتاب بجزأيه فى مجلد واحد! لم أصدق عينى، وبقيتُ برهةً أقفزُ وأهلّلُ بفرح مثل طفلةٍ جائعة وجدت فجأة قطعةً ضخمة من الشيكولاته. وضحك أصدقائى الأدباء. السببُ فى فرحى الغامر أن الجزءَ الأول من الكتاب، فى طبعته الأولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٧٢، ضاع من مكتبتى قبل سنوات، وعبثًا سألتُ جميع أصدقائى (لكى أستعيره ولا أعيده)، فكانوا دائما يخبروننى أن الجزء الأول، أيضاً، مفقود!
حتى استقرّ فى روعى أن لصًّا محترفًا سرق الأجزاءَ الأوَلَ جميعَها من مكتبات مصر، تلك التى تضمُّ الشروحَ والتحليل والتنظيرَ النقدىَّ الواعى، وترك لنا الأجزاء الثانية التى تضمُّ القصائد المترجمة وتراجم الشعراء. يعنى كأنما ذلك اللصُّ الذكىّ قد تعمّد سرقةَ جزء من عقل د. عبدالغفار مكّاوى، وترك عقولَ شعراء العالم الكبار. والحقُّ أن هذا الكتاب قد قرأه كلُّ شاعر مصرى، وكلُّ ظانٍّ بأنه شاعر، وكل مهتمٍّ بالشأن الشعرىّ، وكل ناقد أدبىّ، أو على الأقل هكذا لابد أن يكون. لذا فإعادة طباعة هذا الكتاب تُعدُّ هديةً جميلة لأجيال الشباب الجدد.
بدأ مكاوى كتابة الشعر فى العاشرة من عمره، وأنجز عدّة مخطوطاتٍ شعرية لم ترَ النورَ أبدًا، حتى عثرتْ عليها والدته ففعلتْ بها ما أراحه منها. يقول: «عرفتْ أمى بفطرتها أن أفضلَ ما يمكن عمله بهذه الكراسات الصغيرة المُضيّعة للوقت هو إحراقُها فى الفرن واستغلال أوراقها فى شىء مفيد!».
ثم يعترفُ بنبالة الكِبار، ونقاوة النبلاء، وتواضع العلماء، بأنه طرحَ عن روحه وحُلمه فكرةَ مراودة الشعر نهائيًّا بعد صداقته لصلاح عبدالصبور، إذْ اكتشفَ أن للشعر رجالَه، ثم اختارَ أن يحترف «الخيانةَ الكبرى» وينقل للعربية، بحسِّ شاعر رهيف، قصائدَ عالمية كبرى، فكانت ترجمتُه إبداعًا موازيًا لإبداع الشعراء أثرى بها مكتبتنا العربية.
بدأ الحلم منذ القديم بأن يفتح للقارئ العربىّ كوّةً ينظر من خلالها على الأدب العالمى الرفيع، حتى أشرق صباح أحد أيام عام ١٩٦٦ على لقاء جمع بين كبارٍ ثلاثة هم: صلاح عبدالصبور، وعبدالوهاب البياتى، وعبدالغفار مكّاوى، فأخبرهم الأخيرُ بحلمه النبيل، وتحمّس الشاعران، واتفق ثلاثتهم على أن تلك رسالةٌ وأمانةٌ واجبةُ التنفيذ. قسّموا العملَ فيما بينهم، كلٌّ حسب اللغات التى يعرفها. ومضى عامٌ قطع خلاله مكاوى شوطًا كبيرًا من المشوار الشاق الشيّق، ثم التقى بصديقيه ليكتشفَ أنهما نسيا الأمر تمامًا!
غضب برهةً لأن صديقيه قد نجوا بنفسيهما من الفخّ وتركاه وحيدًا، ثم سرعان ما تأمل الأمرَ، فابتسم فى رضًا قائلا لنفسه: إن الشاعر عليه، وحسب، أن يتفرّغ لمشروعه الشعرىّ، وبذا فقد برّأ صاحبيه من إثم الخيانة، ليعكف، بعمقٍ، على ارتكابها وحده.
هذا الذى سرق من أجلنا شعلةً من نور الشمس، مثلما فعل بروميثيوس الإغريقىّ، فحكم عليه زيوس بأن ينهشَ النسرُ كبدَه إلى الأبد، هذا بروميثيوس المصرىّ، رجلٌ جميل اسمه: عبدالغفار مكّاوى.
المصري اليوم ٢٨/ ١٢/ ٢٠٠٩
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |