فصل1 من رواية سقط سهوا
2009-12-29
بأصابع يدى اليسرى أنهيت كتابة مقالى الشهرى لمجلة الفن التشكيلى قبل أن أرسله عبر البريد الإلكترونى لينشر فى العدد القادم .. لم أذهب إلى المجلة من قبل، فكل ما يربطنى بها لا يتعدى سوي تبادل الرسائل عبر البريد الإلكترونى .. فلا أحب أن يرى أحد عيون فنان فاقد الموهبة .. لا أحب رؤية نظرة الشفقة فى عيون هؤلاء المتطفلين الذين يسألون، كيف يستطيع أن يعيش هكذا؟
أغلقت جهاز الكمبيوتر واتجهت نحو خزانة الملابس، أغير ثيابى، ثم أحضر الإفطار، وقبل ذلك كنت قد غمرت وجهى بالقليل من الماء الذى مسحته بالفوطة المعلقة بجوار حوض المياه.
* * * * *
عندما كنت أرسم لوحة جديدة أعيش داخلها، أمتزج بها، أشعر أننا أصبحنا شيئا واحدا. لقد شرعت فى رسم العديد من اللوحات منذ سنين عديدة إلا إنى توقفت إجباريا عن ذلك، ولأنى لا أعود إلى مشاهدة لوحاتى بعد إنجازها فإنها تظهر لى مجتمعة، ولا تبدو منفصلة إلا نادرا.
وأكثر ما يضايقنى هؤلاء النقاد الذين يعرفون التفاصيل أكثر منى، يسألوننى دائما:
- لماذا عملت هذا الشىء أو ذاك؟
ولا أستطيع أن أجيب عادة، إذ يصعب علىَّ أن أتذكر ما فكرت فيه عندما رسمت لوحة منذ عشرين سنة .. وبعدما صرت واحدا منهم أصبحت مثلهم تافها، أهتم بأشياء لا علاقة لها بالفن التشكيلى.
كنت أقيم معارض للوحاتى كثيرا، يحضرها العديد من المشاهير فى الفن التشكيلى والمتذوقون بالإضافة إلي النقاد، وأذهب إلى معارض أكثر فى العديد من دول العالم خاصة روما وباريس، فالدعوات تنهال علىَّ سنويا .. الكل يتمنى حضورى، يتمنى معرفة رأيى، ولا يمكننى أن أتهرب .. فلو أغمضت عينى لبدا الأمر تذوقا وهيمانا بالإبداع المنقوش على اللوحة.
الآن لا أحد يريد رأى رجل فقد موهبته، وإن كان لم يفقد بعد حس الفنان الساكن داخله .
* * * * *
الحياة .. أتعرف الحياة؟!
الحياة ممتلئة بالعزلة، والبؤس، والعذاب، والتعاسة، وتنتهى بسرعة البرق ...
لذلك لم أشعر قط بانقضاء الزمن، فهو لم يجد بالفعل بالنسبة لى، وإن كنت أبالى بالساعات باستثناء ما كان يفرض علىَّ من مواعيد ... فأنا دائما أؤمن أن الأمور سوف تتحسن كلما كبرت فى السن ... فأغرب الأمور تدور فى رأسى خاصة عندما بلغت الخامسة الأربعين، وأعتقد أننى أواجه أزمة حياة، أو شيئا من هذا القبيل، لا أدرى ... أنا لا يقلقنى التقدم فى السن ... أنا لست واحدا من هـؤلاء الشخصيات.
أثار الزمن بدأت تحط علىّ، بدأ بصلع خفيف أعلى الرأس وقد انتفخ وجهى قليلا وبدأ كرش صغير يظهر علىَّ وأخذت دوائر سوداء ترتسم حول عينى، أعتقد عندما يصيب الصلع رأسى كلها ستتحسن أمور كثيرة خاصة علاقتى بـليلى فأنا لا أستطيع حتى الآن تقبل هذه الحقيقة ... أننا انفصلنا ... شىء مؤسف حقا ... أحاول دائما غربلة أجزاء من هذه العلاقة فى عقلى، لكنى وبكل أسف لا أستطيع فعل ذلك ...
* * * * * *
ليس هناك ما يمنع من أن نفقد بعض الأشياء إلى الأبد ...
بتر معصمى الأيمن ... كان شيئا مؤسفا أن تفقد أعز ما تملك ... يدك اليمنى وموهبتك فى آن واحد ... كان حادث سير مؤلما وأنا فى طريقى إلى مارينا للاستمتاع بعطلة الصيف الماضى ... التفـْت السيارة حول نفسها وسقطت، وسقطت مع السيارة، صحوت من هذا الحلم المفزع لأهش ذبابة وقفت على أنفى فلم أجد معصمى ... واعتقدت أنه آخر شىء سوف يجود به الزمن علىّ إلا أننى كنت مخطئا.
عانيت كثيرا بتلك المعصم الصناعى التى حلت مكان معصمى الأصلى، كنت أشعر أنه شىء ليس ملكى، شىء طارئ وسرعان ما يزول إلى الأبد. لكن الأخرى هى التى زالت إلى الأبد على الرغم من التشابه الذى يجمعها بالمفقودة.
كنت أتمنى حينها أن أكون ذلك الرجل الوسيم القوى الذى تحبه النساء ويغار منه الرجال، حتى يعوضنى شيئا عما فقدته.
* * * * *
بأطراف يدى اليمنى الصناعية وبمساعدة يدى اليسرى المطبقة عليها، بدأت رسم لوحتى الألف أو طفلتى الألف. فأنا أشعر أن كل لوحة أنتجها ما هى إلا قطعة منى بذلت فيها مجهودا خرافيا حتى تخرج إلى النور مثل الأطفال تماما ... تمسك يدى الصناعية بالفرشاة بينما تساعدها يدى اليسرى على الحركة بإحكام وإبداع ... فدائما هذا قدر اليد اليسرى أن تقوم بدور الرجل الثانى، فمهمتها هى تهيئة الأجواء؛ فهى تساعدك فى ربط حذائك لكن لا تربط بها، تمسك بها الورقة لكن لا تكتب بها، تقطع بها الكرة فى مبارة كرة اليد لكن لا تسدد بها، هكذا تظل طوال حياتها، أشعر كم هى مضطهدة دائما، حتى عندما ماتت يدى اليمنى ظلت كما هى قابعة فى رداء الرجل الثانى، فدور البطولة ليس لها، لم تخلق من أجله.
ببطء سلحفاة وتركيز طالب فى امتحان بدأت أضع الخطوط الأولى للوحة. لم أكن متعجلا حتى أعرف ماذا سوف أصنع فأنا لست واحدا من هؤلاء الذين يتعجلون معرفة جنس طفلهم القادم، إلا أننى أعرف أنه سيكون مشوها.
* * * * * *
&nb
08-أيار-2021
17-كانون الثاني-2010 | |
06-كانون الثاني-2010 | |
29-كانون الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |