سقط سهوا الجزء الثاني
2010-01-06
(5)
من أجمل ميزات الحشيش أن المرء يصحو دفعة واحدة أما أكبر مساوئ الكحول أن المرء يصحو بشكل متقطع.
حين رن جرس الهاتف أخرجت رأسى من تحت المخدة ليأتينى صوت ليلى الممتع دائما كما اعتدته :
- هاى فاروق ... أنا ليلى ... هل اتصلت فى وقت غير مناسب؟
لا أتذكر ماذا قلت لها؟ وكيف أنهيت المكالمة؟ إلا إننى أتذكر أنها أرادت مقابلتى فى الرابعة بعد الظهر.
انتظرت كثيرا حتى أفقت من نومى، تذكرت بعض المشاهد الخاطفة من حلم البارحة لكننى لم أهتم به. صداع يستوطن رأسى، تذكرت أننى أسرفت فى تناول الشراب البارحة. فكرت فى أن أنادى جيهان لتصنع لى فنجان قهوة إلا أننى تراجعت عن ذلك عندما تذكرت أنها مشغولة بعرضها الذى سيقام الليلة وعليها التواجد هناك من الثامنة صباحا، فلا يمكن أن تظل فى البيت حتى الواحدة ظهرا.
أشعلت سيجارة ثم نهضت من مرقدى متجها نحو النافذة ورحت أتأمل البشر والسيارات والأصوات المتدفقة فى الخارج. التهمت عدة أنفاس طويلة متلاحقة ثم فركتها بطرف قدمى.
عانيت حتى عثرت على ملابس نظيفة أرتديها، أخذتها ودخلت الحمام معلقها على الشماعة المثبتة خلف الباب الذى أغلقته خلفى.
انزلقت ملابسى الداخلية من على جسدى الأبيض الممشوق رغم عوامل السن ليظهر شعر صدرى الكثيف ولأجد نفسى عاريا تحت المياه الباردة التى اعتاد عليها جسدى صيف شتاء.
* * * * *
كانت تقف وسط مجموعة من النساء، كنت أقف وسط مجموعة من الرجال. فى يدها اليمنى سيجارة محشورة بين أصابعها تنفث منها على مهل، أما اليد الأخرى فكانت ممسكة بكأس من النبيذ الأحمر؛ أنظر إليها، تنظر إلىّ، أتأملها، تتأملنى، تبتسم، أبتسم لها، أدعوها إلى الرقص فتوافق على الفور، تشبك يدها بيدى والأخرى على كتفى فأضع يدى الأخرى على خصرها، أغرق فى بحر عينيها، فأترك نفسى تغرق، تطوق رقبتى بذراعيها، فتنقذنى من الغرق فى متاهات عقلى، تتقارب الشفاه وأحدثها:
- ما وظيفتك؟
- أدرس حاليا الهندسة ... وأنت؟
- أنا محاسب ... محاسب متقاعد.
- فاروق ... تحدث بجدية.
- ليلى ... أنا دائما أتحدث بجدية، لكن على الرغم من سنى الصغير فأنا لا أبحث عن وظيفة جديدة.
- لكن كيف تكسب قوت يومك؟
- الرسم ... أنا رسام. أبيع لوحاتى بشكل جيد. صحيح لم يلمع اسمى بعد إلا إن الجميع أشادوا بى وبموهبتى. على فكرة، يعجبنى ثوبك، يعجبنى اللون ... أفقت من نوبة شرودى فوجدت نفسى على بعد ما يقرب من مائة متر عن المطعم الذى اعتدنا واتفقنا على أن يظل يشهد لقاءاتنا.
* * * * * *
لم تكن الساعات التى مرت علىَّ حتى قابلت ليلى فى هذا المطعم الإيطالى سوى ساعات نضال بين حبى القديم لـليلى وعشقى الجديد لـجيهان، كنت أشعر أننى أنزلق بسرعة إلى الهاوية. إننى أفكر فيها رغم أنفى. إننى لا أستطيع منع تلك اللهفة المنبثقة من عينى نحوها عندما انضمت يدها إلى يدى تصافحنى، طالع كل منا الآخر، شعرت بالحنان والدفء يتدفقان من عينيها، وكأننا نلتقى لأول مرة :
- لى لى، أعتذر عن التأخير.
ابتسمت مـتأثرة بشدة كونى ناديتها باسمها المفضل لديها.
كنا نجلس إلى منضدة صغيرة متقابلين :
- لقد تركتك تنتظريننى، كان علىَّ الاطمئنان على جيهان قبل أن آتى إليك، فقد كانت بحاجة كبيرة لرؤيتى قبل عرض اليوم، لقد كانت مضطربة جدا.
- هل العرض سوف يقام اليوم؟
- هل ستذهبين؟
- أنت تعرف ... أنا كاتبة أهتم بالكتابة ولست متذوقة لفن الباليه.
- أعرف ذلك جيدا، عندما كنت ترفضين صحبتى إلى مثل هذه الحفلات، على الرغم من علمك بشغفى بها.
- لقد مر كثير على ذلك.
- خمسة أعوام، أليس كذلك؟
- نعم ...
أتى النادل فتركت لها حرية الاختيار بالنسبة لما أود أن أتناوله :
- ما آخر أخبارك؟
- تمام الحمد لله ... روايتى الأخيرة ترجمت إلى أربع لغات، ومرشحة إلى عدة جوائز.
- مبروك ... أنتِ كاتبة رائعة، وتستحقين أكثر من ذلك.
وضع النادل أمامنا فنجانين، فنجان الشاى الأخضر لى، وفنجان القهوة لها، كما طلبت ليلى بالضبط.
- لقد انتهيت من كتابة رواية جديدة، وبخصوصها اتصلت بك.
- رائعة .. أتعرفين كم رواية كتبتى؟
- هل تهتم الكم.
- نعم .. أنا أسجل كل لوحة أرسمها فى دفترى الخاص، وأنتِ يجب أن تسجلى كل رواية وقصة ومقالة تكتبينها، حتى لا تطير من الذاكرة، إنه تاريخك.
- لا أهتم بمثل هذه الأمور.
- هل تودين رأيى؟
- نعم.
قالتها وهـى تومئ برأسها ثم استطردت قائلة :
- كنت أود ... لو كنت أنت ... من يرسم الغلاف.
* * * * * *
ودعت ليلى ملوحا إليها بيدى عندما انطلقت بسيارتها وتركتنى فى بحر شرودى محللا حديثنا.
ولماذا الآن تريد رسمى على غلاف من مؤلفاتها، هل تذكرت فجأة أنها كانت متزوجة لرسام، أم أنه الحنين لترانى، أما زالت تحبنى، لكن لماذا تزوجت، وأنا تزوجت، كان زواجها عِنـْدا ليس إلا، وإلا لما لم يدم هذا الزواج سوى شهرين؟!
غمرتنى سعادة بالغة وأنا أتوصل أن ليلى ما زالت تحبنى، وإلا لما دعتنى؟ وبدأت أنتظر بفارغ الصبر لقاءنا القادم.
لفت انتباهى البوستر الضخم المعلق أمام قاعة العرض الذى يحمل صورة رائعة لـجيهان، ولفت انتباهى الحضور الكبير، دلفت إلى الداخل وجلست فى الصف الأول علي المقعد الذى تحمله تذكرتى، كان العرض على وشك البدء.
* * * * *
(6)
- شكرا للرب، لقد انتهى العرض، كان عرضا غبيا ومملا للغاية، وهـى بدرجة لا توصف كانت مخيبة للآمال.
هكذا همست سيدة أعتقد أنها مسيحية إلى زوجها، كانت تجلس بجوارى عندما هبطت الستائر. وأنا أحاول رسم ابتسامة عريضة على وجهى حتى لا تلقى جيهان نظرة علىَّ وينفضح مدى ضجرى أنا أيضا من العرض.
لم أكن أعرف ماذا أقول لها عندما دخلت عليها غرفتها إلا إنها أنهت حيرتى بقولها :
- هل أنت جاهز للرحيل.
- أجل.
- ثوانى، علىَّ إزالة المساحيق من على وجهى وسوف نذهب.
- خذى راحتك ليس لدينا شىء نستعجل من أجله.
ساد الصمت لحظات ... قطعته قائلا وأنا أقترب منها وهـى جالسة أمام المرآة ممسكة بمنديل تزيل به المساحيق بينما أضع يدى على كتفها العارى :
- عزيزتى لم يكن الأمر بهذا السوء فقد فعلتى ما عليك فعله، اجتهدتى ... لم تقصرى، لذلك يجب أن نحتفل وننسى الأمر.
- لا أعتقد ذلك ... فاروق سأكون جاهزة فى غضون دقيقة لنرحل.
قطعت حديثها قائلا :
- لقد انتهى كل شىء.
- بالنسبة لك.
- لا بالنسبة لنا، نحن الاثنين.
حاولت التقليل من انفعالى وأنا أنزع يدى من على كتفها وأدورخلفها وأقول :
- عزيزتى، أنت بحاجة لتدريب كثير حتى تكونى رائعة.
- هلا توقفت عن ذلك الحديث الآن.
دعكت طرف أنفى وحدثتها بهدوء الأب الروحى :
- لا أريد أن يراودك شعور اليائسين أمثالى، الموضوع لا يساوى صدقينى.
- حاضر ... لنكف عن هذا الحديث.
انخفضت حدة صوتى وطغى عليه طبقة من الحنان عندما قلت لها :
- حبيبتى ... لنتحدث بهدوء عما حدث.
فهبت فىَّ واقفة قائلة :
- لقد قلت لك لا أريد التحدث، أفهمت؟
لم أستطع الإحكام على أعصابى وأنا أرد عليها فاندفعت فيها كقطار فـُقد السيطرة عليه :
- لا لم أفهم بعد. فليس ذنبى أن العرض كان رديئا، من المؤكد أنه ليس ذنبى أنك لم تصبحى شيئا.
- اصمت ... هذا يكفى.
- لا ... لا يكف. أنا لم أعد أصلح لملائمة دور الأخرس الذى يجب عليه أن يسمع فقط. أنت زوجتى ولى حقوق عليك، أفهمتى؟ فأنت دائما تهتمين بنفسك فقط ولا تسمعين إلا صوتك.
- لدى ما يكفينى، لقد كنت واضحة معك، لا أريد مناقشة شىء الآن.
- حاولت أنا أبدو لطيفا، لكن صبرى نفد.
- يالك من لطيف! كل الرجال على شاكلة واحدة، قذرون لهم أظافر طويلة لن يتخلصوا منها أبدا.
هكذا قالتها بسخرية وتهكم.
حاولت أن أستجمع أنفاسى وأسيطر على فمى وأجبر قدمى على الخروج من هذه الدوامة التى لن تنتهى، بعد ما صفعتها يدى الصناعية، صفعتها على خدها الأبيض، لتترك آثارها على سحنتها، لكى تذكرها دائما بى كلما تطلعت فى المرآة.
* * * * * * *
أنظر إلى أصابع يدى الصناعية نظرة كارهة لما أحدثته، وحملتها الذنب الذى اقترفته فى حق جيهان. كلما أرى أطراف أناملى أتذكر وجهها الرقيق الذى طـُبع عليه بصمات أصابعى وأتسائل :
- كيف تحملت جيهان الضربة؟ هل كـُسرت أسنانها وتورم وجهها؟ كم هـى يد ملعونة.
خبأت يدى الصناعية داخل جيب بنطالى حتى لا يقودنى الغضب إلى التخلص منها فى أقرب صندوق قمامة فيلتقطها أحدهم فيلهو بها أو يجعلها لعبة لطفله الصغير.
أفقت من شرودى فأجد نفسى أقف أمام مطعم صينى بينما تدعونى فتاة يبدو من ملامحها أنها صينية إلى الدخول فطاوعتها ودخلت.
كان المكان بجملته صينيا صرفا فى كل شىء، من الزى الصينى القديم الذى نشاهده فى الأفلام الصينية يرتديه كل العاملين الذين يبدو من ملامحهم أنهم صينيون، إلى رواد المطعم الذى أغلبهم من الصينيين وبعض الجنسيات المختلفة القادمين من شرق آسيا، حتى أنه خـُيل لى أننى لو خرجت من المطعم سأصُدم بأن كل من بالخارج من الصين.
المطعم أنيق إلى درجة كبيرة رغم نظام فرشه العتيق فهـو يحتوى على صفان من المقاعد، وست مناضد فى كل صف، وعلى كل منضدة حامل يحتوى على أوعية زجاجية للملح والتوابل والصلصة، والمكان أيضا مضاء بصورة كافية ومزدحم، تسمع المحادثات واصطكاك الأطباق فوق الحوار، وهناك رجل عجوز يجلس خلف مكتب الحساب لمحته بطرف عينى بينما تقودنى الفتاة الصينية إلى أحد المقاعد التى تشعرك أنك فى أحد موائد الرحمن فى رمضان، انصرفت بعد ما أشرت إليها إلى صنفين من الطعام فى القائمة. وما هـى إلا لحظات حتى كان الطعام أمامى.
ابتسمت وهـى تضع عينها فى الطبق الذى أمامها عندما شاهدتنى أعانى بتلك العصيان الخشبية. كانت امرأة تبدو من ملامحها أنها صينية إلا إننى عرفت بعد ذلك عندما اصطحبتها إلى شقتى أنها من ماليزيا وقد أتت إلى مصر من أجل الدراسة فى الأزهر إلا إن ضيق الحال قادها إلى أن تكون عاهرة، اكتفيت بذلك فقط عنها، أما أنا فلم أخبرها شيئا عن حياتى ولا حتى اسمى.
أدرت المفتاح فى فوهة الباب وكنت أتمنى أن تكون جيهان فى الداخل وتشاهدنى وأنا أضاجع واحدة غيرها على سريرها إلا إننى كنت على يقين أن جيهان لن تكون فى البيت بعد الذى حدث اليوم.
دلفنا إلى غرفة النوم فوقفت خجلى فى منتصفها محدقة فى بلاط الغرفة بينما وقفت على مقربة منها أخلع ثيابى وأشرت إليها بأن تخلع ثيابها فنفذت على الفور واندست تحت الغطاء وطلبت منى بلكنتها العربية المكسرة إغلاق الضوء وتشغيل مقطوعة موسيقية لموتزارت فلم أملك شيئا له فأدرت عوضا عنه بيتهوفن، ثم تبعتها تحت الغطاء.
* * * * *
عندما استيقظت لم تكن بجوارى. توقعت أنها سرقت نقودى مثلما يحدث دائما فى الأفلام العربية فخاب ظنى، فلم تأخذ إلا ما اتفقنا عليه وتركت الباقى. فكرت فى نوبة حب جديدة معها.
08-أيار-2021
17-كانون الثاني-2010 | |
06-كانون الثاني-2010 | |
29-كانون الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |