الأستاذ الفنان غياث الأخرس
كان السؤال يأتي ويغيب، كل مرة، حين تتحاور مع فنان تشكيلي،أو نحّات، أو حفّار، أو ما شئت من بقية الاختصاصات البصرية، والتي تتعامل مع جسرالتفاعل الأعظم والأكثر تطوّراً الآن على الكوكب، ثقافة العين.
في حين لم تزل الفنونالأخرى، بمنأى عن تطوير آليات تأثيرها على الحياة، والنطاق المحيط، وبكلمة واحدةمختصرة ومسدّدة، تأثيرها على (الآخر)، مما لم يخرج في تقنياته، عن الحكي، والقص،والحماسة، والوصف، والتألّم، والمديح، والهجاء، وغيره من أدوات (ثقافة الأذن) ثقافةالسمع والطاعة، ثقافة الإصغاء، والصراخ.
تمكّنت الفنون البصرية، منالتفوّق بسهولة، على الفنون التي لم تعمل على تطوير ذاتها، وبات صريحاً واضحاًوجلياً، أن ما يتدخّل في حياة الناس، ويغيّر من ذوائقهم، ليس الرواية، ولا قصائدالشعر، ولا المقالات الصحفية، والدراسات، بقدر ما تفعل مجموعة كوادر بصرية، لفيلمسينمائي، أو حلقة من مسلسل، أو لوحات منتشرة في البيوت والشوارع، أو تماثيلوتنصيبات هنا أو هناك، إلخ.
ثقافة العين والواقع السوري
في هذا الوقت، نتحدّث عنالدور الكبير الذي تتعمّد كلية الفنون الجميلة في دمشق، تبنيه، وإعلانه، والقيامبه، كبديل عن التأخر الذي لحق بالحياة الثقافية السورية، في جوانب مختلفة، فتذهبمشاريع الكلية، إلى الحلول في بعض الأحيان، محلّ الحياة الأهلية، المهتمة بتنظيفوتزيين وترتيب الشوارع ـ بالطبع هذا الدور بانتظار نخب ثقافية تقوده وهو ما لميفعله أحد! ـ كما يحصل في المخيمات الطوعية التي تقيمها الكلية لطلابها، في معلولاالعام الماضي مثلاً وفي أماكن أخرى، حيث يجري منح المكان السوري روحاً تليق به،وتخليصه من شوائب الإهمال والتآكل البصري، باتجاه إظهار شخصيته الحقيقية، وبهائهالأصيل.
أما ما يحدث في البرامكة،خلف أسوار كلية الفنون الجميلة ، فهو فوق ذلك بكثير، إذ يتحرّك الأساتذةوالمحاضرون، موجّهين طلابهم من خلال التمارين والمشاريع الطلابية الدورية أو مشاريعالتخرّج، إلى التدخّل ـ من جديد ـ في الحياة العامة، فلا تخلو ورشة عمل من دراساتإعلانية لحملات توعية وإشهار حول قضايا ملحة مثل مرضى السرطان، أو البيئة، أوالسياحة، أو ..إلخ...فلا يعود عمل الطلاب مقتصراً على تلقي المعرفة الأكاديمية بلممارسة آثارها ومراقبة نتائجها على الواقع، وذلك ضمن اختصاصاتهم المختلفة (تصويرونحت وحفر وديكور واتصال بصري وغيرها من الاختصاصات) فيسخّر ذلك كلّه من أجلالمشاركة في الحياة، فتصبح حياة السوريين هي موضوع عمل الطلاب الدائم ومشروعهمالمتواصل.
أدرك الرئيس بشار الأسدوالسيدة عقيلته، ذلك الخيط الحاد والقوي والحساس الذي يربط أجيالاً تسكن في صفوفالدرس، وبإمكانها أن تفعل فعلاً كبيراً في الواقع السوري، فقاما بزيارة الكلية،والمخيمات الطوعية للطلاب، وتحاورا معهم، ومع الأساتذة، وقدّما الدعم المعنويوالمادي المباشر لمشاريع الطلاب، وشجّعا على العمل على إظهار ذلك الدور، وتكريسه،وتوجيهه، وهو التقاط ذكي لتأثير البصريين في الحياة السورية، واستباق للمشاركة فيلحظة تطوّر تعيشها سورية، من خلال هؤلاء، بحكم الشخصية السورية الميالة للتعبيربالفن الاحتفالي المسدّد، من جهة، وبحريّة التأثير بأشكال مختلفة من جهة أخرى.
وقامت مؤسسة الرئاسة باتخاذالإرادة السامية، بتحويل مدخل كلية الفنون الجميلة من مجرّد مدخل شاحب، يستخدم بينالوقت والآخر لعرض اللوحات بظروف سيئة، إلى صالة عملاقة، هي الأكبر من نوعها فيالمنطقة، صالة تهتم بكل الميديا البصرية والسمعية، بتجهيزات كبيرة، وإمكاناتمتطوّرة، ويجري وضع اللمسات الأخيرة على صالة كلية الفنون الجميلة لتكون (المركزالدولي للفنون البصرية والسمعية) ولتصبح قلباً ثقافياً متطوّراً لدمشق، في ثناياالبرامكة ـ الحيّ الجامعي، وأرصفة الحلبوني الشهيرة بمكتباتها وبسطات كتبها، قربالمباني التي مازالت أرواح من درسوا فيها ولامست أصابعهم خشونة الورق الأصفرالقديم، تتحرّك، وتبحث عن منجز جديد.
البصريات في الكلية وعلىالشاشة السورية
في خريف 2009 تعقد الهيئةالعامة للإذاعة والتليفزيون ممثلة بمديرها العام د.ممتاز الشيخ ورئاسة الجامعةممثلة برئيس الجامعة د. وائل معلا وكلية الفنون الجميلة، اتفاقية تعاون هي الأولىمن نوعها، ما بين المؤسسات الرسمية السورية، تهتم بنقل مشاريع طلاب كلية الفنونالجميلة إلى الشاشة السورية، وتلقيح الشاشة بالجديد، ونقل الخبرة إلى الشباب عبرخبراء الغرافيك في التلفزيون السوري، وذلك عبر تفاصيل وبنود يخوّل الطلاب من دخولمبنى التلفزيون والإطلاع على زوايا العمل فيه واقتراح البرامج اللازمة لإنجاحالشاشة، بدءاً من الصورة التي يراها المشاهدون ولوازمها من معالجات غرافيكيةوبصرية، وصولاً إلى نماذج الديكور لبعض البرامج التلفزيونية، وإقامة ورش العملالمشتركة، وحتى بناء البرامج من ناحية الإعداد والتحرير والإخراج، وكذلك في مايتعلق بمجلة الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون (هنا دمشق) فتقوم المجلة بنشر أعمالالفنانين من الأساتذة ومشاريع تخرّج الطلاب ولوحاتهم وتجري الحوارات معهم وتفتحأبوابها لنتاجاتهم، وتستقبل أفكارهم، حول تطوير المجلة وإخراجها.
وقد دخلت الاتفاقية حيّزالتنفيذ عبر بث إعلانات صممها الطلاب وأشرف عليها النائب العلمي لعميد الكليةالأستاذ الدكتور عبد الناصر ونوس والمهندس مراد الناطور رئيس وحدة الترويج فيالتلفزيون السوري، ومن تلك الإعلانات إعلانا (يوم البيئة العالمي ـ سرطان الثدي) اللذان شاركا في مهرجان القاهرة للإعلام العربي للعام 2009 وحصلا على مراتب متقدمةومنافسة في لجان تحكيم الإعلانات الترويجية العربية. وأيضاً تم بث إعلانات مشتركةفي بعض المناسبات الدينية والوطنية السورية.
ويجري الآن الاتفاق علىمشروع تطوير وتبني برنامج (الفن الثامن) الذي يهتم بالأنيمايشن والتحريك والرسومالمتحركة، فيصبح مسرحاً مشتركاً لفريقه التلفزيوني ولفريق من أساتذة وطلاب كليةالفنون الجميلة.
يقول الدكتور ممتاز الشيخالمدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون: ( لم نقم بخلق تلك الاتفاقية وتوقيعهالتصبح حبراً على ورق، ولكن كي نعطي الفرصة لهذا المبنى، أو هذه الشاشة، كي تكمّلدورها التنموي، في رفد المجتمع السوري، بفنانين محترفين جدد، يرون أعمالهم تعرض علىالشاشة ويتناولها المشاهدون بالنقد والإعجاب وهم بعد في مرحلة التعلّم، وقبل أنيتلقّفهم السوق، وقبل أن يتخرّجوا ويصبحوا في حالة بحث عن فرص العمل في الخارج أوفي القطاع الخاص....ونحن نعمل على تفعيل تلك الاتفاقية حتى بالحوارات التجريبية،ونطرح أمام طلاب كلية الفنون وأمام فريق عملنا في التلفزيون فرصة الحوار حول فكرةبرنامج قد لا تروقهم وقد لا يتفقون عليها، وفي النهاية سنحصل على ما بحثنا عنه وهوالتشارك في مشروع كبير)
كما يعمل المشرفون علىالاتفاقية عبر الخطة التنفيذية التي صمموها، على تغطية كل النشاطات التي يقوم بهاطلاب كلية الفنون وبثها عبر الشاشة، وكذلك على إشراك التلفزيون في ورش العمل التييجري خلقها في الكلية وفي الفضاءات التي يمتد إليها نظر البصريين.
رؤية وعراقيل
تعرّض هذا المكان للعديد منالعراقيل التي حاولت إنهاءه بأي شكل كان، ليكون مشروعاً من المشاريع التي تسلّمهاأيدي المتعهدين إلى دوائر الدولة والجهات الرسمية، ولولا التدخل الكبير للفنانالأستاذ غياث الأخرس في الإشراف على المواصفات العالية والإصرار عليها، بالتعاون معالدكتور عبد الناصر ونوس، لما أنجز ما سيراه زوار ومرتادو الصالة بعد افتتاحهاقريباً.
يقول الأستاذ الحفّار غياثالأخرس في حديثه عن الحوار في الفن ( نحن نفتقد إلى حالة الحوار...حتى على كأسشاي..وما نفعله في زيارة المعارض هو بعض المجاملات وتبادل التحيات وبعض النقدالعابر، ولكننا نحتاج إلى الحوار لأن الحوار هو أساس الفعل...ما نسعى إليه الآن، هوأن يبدأ هذا الحوار حتى نحصل على المشروع الثقافي...لأنه لا يوجد مع الأسف مشروعثقافي على الأرض).
وليس هذا هو الأفق الوحيدالذي يحاول الأستاذ الأخرس فتحه أمام الطلاب الشباب الذين رأى فيهم ما رآهبأساتذتهم منذ أكثر من خمسين عاماً حين كان يؤسس مع زملائه الكبار لإنشاء كليةللفنون الجميلة في سورية، ولافتتاح اختصاصات مختلفة فيها، بعد أن عاد المعلّمونالأوائل من رحلاتهم ودراستهم خارج البلاد، فيصرّ الأخرس على الاحتكام بأبسطالتفاصيل في عمل الطلاب، وفي مناهج درسهم، وفي نوعية آلات الشغل التي بين أيديهم.
نقول هذا لكي نتحدّث عنالعراقيل التي يمكن أن تواجه رؤيةً من هذا النوع، فالحديث عن تقدّم البصريين، علىسواهم، بحدّ ذاته، يعدّ فتح نار على من اشتغلوا على أدوات تعبير ـ أصبحت الآن منأدوات الماضي ـ بالتالي لنا أن نتوقّع الكثير، ممن سيسعون إلى تأخير تنفيذ تلكالمشاريع، وتبطيء إيقاعها، وتشويه نتائجها النهائية، وهو ما حصل أكثر من مرة، لنصيرإلى الواقع العتيق الذي دأب عليه (المعرقلون) واعتادوا على نسجه في أذهان الناس،فطرائق التدريس التي مورست على طلاب كلية الفنون، خلال عقود مضت، لم تفرّق كما يقولالدكتور عبد الناصر ونوس( ما بين طالب الحقوق وطالب الفن!! والتجهيزات الفنيةوالكومبيوترات التي وزّعت على كلية الفنون هي ذاتها التي وزّعت على كلية الشريعة!! وأساليب التعامل مع الطلاب التي توجّب أن تختلف حسب كل علم يدرّس، كانت على صيغةواحدة، فيلقي الأستاذ في روع طلابه وعلى هؤلاء أن يسمعوا ويطيعوا دونما أي نقاش»،ويضيف موضحاً»بخصوص اتفاقية التعاون مع الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون نحن نؤمنبضرورة منح الطلاب فرصة التعاون مع مؤسسات الدولة وحتى مع القطاع الخاص على إنجاحالحملات الترويجية والإعلانية والمشاركة في التوعية الصحية والتربوية والجماليةللمجتمع، وهذا يتحقق الآن خطوةً خطوةً، مع الاتفاقية، أما صالة كلية الفنون فستكونموقعاً علمياً وتربوياً واجتماعياً كبيراً نحلم بأن نتمكن من حمايته وإيصاله إلى ماطمح إليه السيد الرئيس حين قرّر إنشاءه وتمويله).
من جهته يقول المهندس مرادالناطور ممثل الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون في اتفاقية التعاون مع كلية الفنونالجميلة: (نحن نعمل مع أساتذة كلية الفنون لصنع قاعدة علمية، نستند إليها في صنعالتأثير، لأن الهوية البصرية للشاشة السورية لا يصنعها طرف واحد، إنما هي آلية لاتنتهي، وهي قابلة للتطوير ما دام هناك أفكار جديدة وأجيال جديدة تكتسب الخبراتوالتقنيات الجديدة)
ملف التلوّث البصري فيسورية
من الملفات التي عمل الرئيسعلى معالجتها وأكّدت اهتمامه بدور البصريين في سورية، هو ملف معالجة التلوث البصريالذي كلّف به الدكتور الفنان إحسان عنتابي مؤسس قسم الإعلان والاتصال البصري فيكلية الفنون الجميلة في دمشق، وقد مهّد الطريق كاملاً أمام المشروع الذي حملهالدكتور عنتابي إلى التنفيذ، عبر الدراسة والبحث المعمّق، الميداني، الشامل، لكلأشكال التلوّث البصري، سواء تلك التي نتجت عن جهل أو إهمال السكّان للبنية الجماليةللمدن ـ دمشق مثلاً ـ أو تلك التي نتجت عن إفراط المعلنين وشركات الإعلان في نشرلوحاتهم ووسائل إعلانهم على الطرقات والواجهات، وقد ساهمت لجنة وزارية بمساندةمحافظ مدينة دمشق على تطبيق جانب كبير من هذا المشروع، في الأحياء الدمشقيةالرئيسة، وأيضاً على طريق مطار دمشق، التي باتت نموذجاً دقيقاً يتوافق مع الكودالعالمي ـ كما يحب الدكتور عنتابي أن يسميه ـ توفّر السلامة المرورية والجماليةووضوح الرؤية.
ولكن المشروع تعرّض أيضاًللكثير من العرقلة، والتأخير، وأسباب ذلك واضحة، ما دامت قد تتداخل مع مصالحالمعلنين ، الذين سيرون في إزالة مخالفاتهم، تهديداً لكتل مالية يمكن أن تجلبها لهمالأعداد الهائلة من اللوحات الإعلانية التي تغطي واجهات المباني الأثرية والشوارعالتي لم تصمّم أساساً لتكون حوامل إعلانية بقدر ما تم إنشاؤها لوظائف أخرى..أقلهاتجميل المدينة.
نُصب دمشق ووحشة الطريق
قلنا أكثر من مرة، وفي أكثرمن مكان، إن دمشق الياسمين تستحق أن ينبت بين ظهرانيها تمثال لشاعر الياسمين نزارقباني، كي يزوره العشاق في عيد الحب، ويضعوا عند قدميه شدّاتٍ من ذلك الزهر الخالد،في مدينة الياسمين، ولكن ذلك ووجه بأعذارٍ مختلفة من قبل من أتيحت لهم الفرصة يوماًما ليصنعوا فضاءً خاصّاً لهذه المدينة، وما يقوم الآن بتحريكه النحّات مصطفى علي منخلال ملتقيات النحت، التي توزّع أعمالها على المدينة وحدائقها، إنما هو إعادة رسم،ثلاثي الأبعاد للمدينة التي تستحق أن يمتلأ فراغها الحيوي، بموجودات تشارك سكّانهالحظاتهم، في هذه الأيام لا يتوقّف النحت على الصخور البيضاء، والبازلت والحجرالقديم، كي تزرع أيدي البصريين في دمشق، مناخاً جديداً للإنسان، مناخاً يمنحك فرصةالتأمّل وأنت تشرب القهوة في حديقة عامة، وتنظر في تعرّجات وعروق تمثال صنعتهالأزاميل لا ليعرض في صالة موحشة، ولكن في الهواء الطلق أمام الناس.
هذا ليس كل شيء، فطريقالبصريين، محتشدة، بالكثير، وهم يعملون الآن، فيما يخوّض الإنشائيون في عالمهمالقديم، يعيدون الجمل، والمفردات، ويحاولون إيهام الواقع، بالكلمات، وهي إن لم تكنبوابة مستقبل، فلن يكون لها في الحاضر، سوى الوقت الضائع.
وما سيحصل بعد فترة هوانقضاض عنيف لتلك العقول على الرؤية التي أسست لها مؤسسة الرئاسة ومن يسعى معهالفتح الأفق بالتعاون مع طلاب كلية الفنون، أمام رؤية بصرية مستقبلية لسورية، انقضاضبغرض إفشال التحوّل، وقهقرة الفكرة، وليكن هذا التعبير (انقضاض) نذيراً لمرحلة،سيطغى فيها فعلُ البصريين، وسيردّ عليهم (عالمُ الإنشاء) الذي يريد إبقاءنا جميعاًفي دائرة الانتظار، ريثما تمرّ السنوات والعقود.
دمشق
تشرين الثقافي أبواب
الاحد 28 شباط 2010