الشِّعرُ في طرقات قرطبة
2010-04-30
الشِّعرُ لا يحبُّ المَنصّات العالية، ويفرُّ وَجِلاً من القاعات الأنيقة، ويسخرُ ملءَ قلبه من ربطات العنق المُنشّاة، التي ينتعشُ فيها المَوات. الشِّعرُ يحبُّ الحياةَ ويحبُّ الناسَ. تجده في عين طفل يركضُ بفرح وراء فراشة، ثم تتحولُ الفرحةُ في عينيه حَيرةً وقد انتبه إلى غياب أمّه، ثم تتبدّلُ الحيرةُ خوفًا، ثم يتحوّرُ الخوفُ دمعةً تغلّفُ العينَ الوَجْلى، قبل أن تسقط على الوجه الصغير، ثم تعودُ الدمعةُ فرحًا غامرًا وقد لمحَ وجهَ الماما بين عشرات الوجوه البعيدة. يبحث الشِّعرُ عن ذلك الطفل، ويلازمُ تلك العينَ في تحوّلاتها، وما أن يُسلّمه لأمه، حتى يطيرَ بعيدًا لينامَ في غَيمةٍ نائية، أو جناح طائر مكسور، أو ورقة شجر صفراء مَنْسيةٍ، ألقاها الخريفُ بعيدًا عن غصن الشجرة الأم.
لكلِّ ذلك رحبتُ فورًا بالمشاركة في مهرجان كوزموبوتيكا بمدينة قُرطبة الأسبانية. ليس فقط لأنني عزمتُ على السيْر في كلِّ رواقٍ سار فيه ابن رشد، الفيلسوف المشاكس، الذي ضمّه مايكل أنجلو مع مُشاكسي العالم في "لوحة الجحيم" على سقف الفاتيكان، وأسكنه دانتي آليجيري مرتبةَ الجحيم الرابع "الكوميديا الإلهية"، ولا لأنني، كمعمارية، أتوقُ لزيارة مدينة دوّختِ التاريخَ، إذْ كادت أن تكونَ مسلمةً بعدما فتحها طارق بن زياد في ق8، حتى أعادها فرناندو الثالث في ق13 للغرب المسيحيّ، فجمعت بذلك، في تناغم فاتن، بين العمارة العربية والغربية، بل رحّبتُ بالمشاركة أيضًا لأسباب تخصُّ مفهومي عن الشعر.
نجح مهرجانَ Cosmopoética، منذ ميلاده عام 2004، في جعل قراءة الشعر عادةً أصيلةً لدى الناس؛ من شريحة الأطفال إلى المسنّين، مرورًا بكافة خيوط نسيج المجتمع؛ من العمال إلى ربّات البيوت إلى المعوّقين إلى المساجين حتى. وهنا تلحُّ عليّ مقولة أفلاطون: "علّموا أولادَكم الفنَّ، ثم أغلقوا السجون." فالفنُّ ضدٌّ للقبح والجريمة. كان الهدفُ تحريرَ الشعر من صندوقه الضيق الذي تتجمد فيه النخبُ المثقفة، وإطلاق سراحه نحو الأروقة الأكثر حياةً، حيث الشوارع والأزقة والميادين والمدارس والمساجد والكنائس التي تملأ جنبات قرطبة، مدينة التراث العالميّ، كما وصفتها اليونسكو، المدينة التي تمّ اختيارُها لتكون عاصمةً للثقافة الأوروبية عام 2016. لا خيوطَ فاصلةً بين طرائق التعبير لدى هذا المهرجان. لذلك عمل على تذويب الحوائط بين الشعر، والمسرح والسينما والتشكيل والموسيقى والنحت. مثلما أصر على تذويب الجدران بين الألسن، لذلك يدعو كل عام شعراءَ من كافة أرجاء الأرض، إضافةً إلى الشعراء الأسبان. وهذا العام، يشارك شاعران عربيان في دورته السابعة: عباس بيضون من لبنان، وكتابةُ السطور من مصر. وتأتي فرحتي الشخصية في أن إحدى أمسياتي الثلاث في قرطبة كانت في مدرسة ثانوية، إضافة إلى أمسية في معرض الكتاب بقرطبة، وأخرى في قرية اسمها "البئرُ البيضاء". ولكي تجعلَ السماءُ فرحتي غامرةً فقد كان اسم المدرسة Averroes /ابن رشد! فهل أجملُ من أن تقرأ قصائدك على صِبية وصبايا في طور التشكّل، لتعرفَ أين تقفُ قدماك في تِيهٍ عظيم، ومخيف، اسمه: " تيه الشعر".
المصري اليوم
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |