نقد التاريخ المقدّس عند هشام جعيط
2007-12-05
1 ـ السيرة النبوية (1). الوحي والقرآن والنبوّة:
في مقدمة كتابه "الوحي والقرآن والنبوّة" يقول المؤرخ التونسي هشام جعيط بأنه يرغب في إعادة كتابة السيرة النبوية بطريقة علمية مغايرة لكل السّير التي كُتبت قديما أو حديثا. فهو يَعِدُ القارئ العربي، أو الغربي اللائكي الذي يبحث عن عمل تاريخي مغاير وبديل لتواريخ السيرة المكرّرة دون ملل عبر الأجيال، بأنه سيطّلع هذه المرّة على تاريخ يتصف بالموضوعية والدقة العلمية. جعيط يقدّم ضماناته المنهجية بهذه العبارات: « هذا الكتاب وما سيتبعه علميّ وليس بالدراسة الفلسفية، ويَعتبر بالتالي كمعطى ما هو لبّ الدين الإسلامي: الوحي، الإيمان، البعث. وسواء كان المؤرّخ ـ المسلم وغير المسلم ـ مؤمنا أو خارجا عن الإيمان فمنهجه الصحيح هو هذا، أي اعتبار المعطى كمعطى ومحاولة تحليله لا أكثر، ثم يضيف، مدعّما توجهه الفكري الجديد: « وقد حاولنا في هذا الكتاب الاعتماد على المعرفة واستنباط منهج عقلاني ـ تفهّمي لم نجده لا عند المسلمين القدامى من أهل السير والتاريخ والحديث ولا عند المسلمين المعاصرين. وأكثر من ذلك، إن المستشرقين، على سعة اطّلاعهم، لم يأتوا ببحث يذكر في هذا الميدان وتبقى دراساتهم هزيلة، مقارنة بفحول الفكر والتاريخ في الغرب. وعلى كلّ، فالتعريف ـ بوجه المقارنة ـ بالحضارات والأديان الأخرى، إنما أرجو منه خروج العرب والمسلمين من تقوقعهم وضيق أفقهم الفكري».
هذا من حيث المنهج أما من حيث الأسلوب فإنه يَعِد القارئ باتّباع " الدّقة وجزالة الخطاب" ويؤكد على هذا النهج غير ما مرّة قائلا: « ابتعدتُ عن الأسلوب الوهّاج المَشوب دوما بالضبابية . لقد جعل المؤرخ التونسي من مثاله الأعلى ونموذجه، في أسلوب الكتابة، نص القرآن، والسبب الأساسي أنّ القرآن هو النص الوحيد الذي: « جمع بين دقّة التعبير والكلمة المثيرة والعمق الكوسمي والوضوح الكامل البين. وهذا من أهمّ خصائصه».
لا يَخفى على أحد بأن هذه القواعد المنهجية في كتابة التاريخ والأسلوب النثري المتبع تُعدّ فضائل نظرية نادرة في وقتنا الحالي، لأنا نرى ونعاين المشهد المزري الذي تخضع له كتابات السيرة وكيف آلت، في أيدي أناس فاقدين لشروط البحث العلمي الحديث، إلى سَيل من الخطابة وضحالة في المضمون ليس كمثلها ضحالة.
بالإضافة إلى القرآن كمرجع أوّلي من حيث الأسلوب والإثارة والعمق، فإن جعيط يستثمر آخر ما توصلت إليه أدبيات التاريخ المقارن للأديان ومناهج التأويل الحديث. ويبدو، إن لم أخطئ، أن غرضه يكمن أساسا في تحصين أعماله من أي منعرج إيماني قد يؤدي به إلى التنازل أمام أطروحات الإيديولوجيا الدينية التبريرية. وهذه العملية الوقائية لها أبعاد معرفية إيجابية لأنها تفتح باب البحث العلمي وتشجّع على التحرّي وتقصي الأسباب الموضوعية للأحداث التاريخية.
النقطة الأساسية التي يحوم حولها النزاع بين المثقفين العلمانيين، من مؤرخين وفلاسفة، وبين جميع أطياف الكتاب المسلمين، تتلخص في الموقف المنهجي الذي يختاره الباحث من القرآن والنبوّة: موقف تقديسي أو دنيوي. الباحث مُجبر أن يموقع عمله ويختار منهجه بدقة: إمّا أن يتخذ موقفا علميا واحدا ومستقرّا لا يحيد عنه ويجعل بذلك من القرآن وثيقة تحمل معطيات وقائعية حدثت في فترة زمنية معينة وفي رقعة جغرافية محدّدة وبالتالي فهو، ككل الوثائق الإنسانية المكتوبة، يخضع لقوانين التأويل والتحليل الفيلولوجي والنقد التاريخي، وإمّا أن يتعامل مع القرآن كنصّ مقدّس ومنزل من الله حرفا ومضمونا؛ كلام الله السرمدي الذي لا يخضع للتغيّر والتبديل. الموقف الأول يُنتج معرفة علمية ومحررة من أسر التراث اللاعقلاني والثاني يقف عند حدّ التبرير، مكرّسا ذهنية التقوقع والأسطورة، وغير عابئ بشروط التقدم العلمي. لكن محاولة الأخذ بالموقفين والجمع بينهما، هي الأخطر على المفكر، فالتأرجح بين الموقفين قد يُولّد نوعا من الالتباس وقد يخلق توترا بين الاعتقاد الإيماني وبين روح العلم، وهما الضدّان اللذان لا يجتمعان أبدا.
على كل حال مشروع جعيط يبدو أنه مشروع جديد في مجال الدراسات العربية الإسلامية، ومنهجه العلمي المسنود بتاريخ الأديان وبالعلوم الإنسانية الغربية، ـ لا بتواريخ المستشرقين ـ، يُثلج صدر الباحث المجتهد ويَنزع عنه حجاب أفكاره المسبقة. وهو عمل خطير بمعنى ما لأنه قد يؤدّي إلى مراجعة شاملة للتاريخ الإسلامي وبالأخص لتاريخ المدوّنة القرآنية والبعثة النبوّية، وإلى هَدمٍ لمقدّسات راسخة وتَعريةٍ لخلفياتها الأسطورية وزيفها التاريخي. وليس للقارئ العلماني إلاّ أن يُثني على هذا التوجّه الفكري الجديد وأن يعتبره مثالا يُحتذى به، وبرهانا مُفنّدا للنقاد الغربيين ومن جرى مجراهم، مِن أولئك الذين يدّعون أن كُتاب السيرة العرب لا يملكون أيّ حسّ نقدي، ويجهلون أبسط قواعد الموضوعية العلمية غير ملمّين بالعلوم الإنسانية، من تاريخ أديان، وفيلولوجيا، وأديان مقارنة، وفينومنولوجيا. وبحقّ عُدت أعمالهم غير جدّية بالمرّة ولا أحد من المستشرقين استشهد بها أو أخذها بعين الاعتبار.
لكن نشوة القارئ، حين الغوص في نصّ جعيّط، لها حدود لأن موضوعية الكاتب لها حدود أو بالأحرى وضع لها هو نفسه حدودا. لقد عنون الفصل الأول من كتابه هكذا : " القرآن ككتاب مقدّس ". وهذا العنوان بمفرده يثير في ذهنية القارئ العلماني شيئا من الاحتراز؛ لأن الرّجل حول فكرة أن القرآن كتاب مقدّس، والتي بدأ بها تحاليله وتخلّلت كل أطروحاته، لا يتزحزح أبدا، ولا يعتبرها فكرة خاضعة لأية مساومة أو تنازل. فهو يتعجّب كيف لم يصل المستشرقون (يستثني البعض منهم) إلى قناعته تلك: « لكني أعجبُ من بعض المستشرقين ـ وليس كلهم ـ الذين ليسوا بمسلمين، وبالتالي نظروا إلى الإسلام والقرآن نظرة خارجية ومجرّدة من كلّ إيمان فاعتبروه أثرا من محمد . هذا أمر يُنكّل بعقولنا أشد التنكيل قبل أن يُنكّل بالمستشرقين الصابئين. فالمؤرخ الحديث يعيب على العلماء الغربيين أشياء ليست من مشمولاتهم ولا تدخل في تكوين أسس التفكير العلمي، أعني فقدانهم الإيمان بالوحي والمُعجزات وتعالي القرآن، التي هي في الطرف النقيض من ذهنيتهم الوضعية. الاعتراض الوحيد ضد هؤلاء المستشرقين "الكافرين" يقدّمه جعيط هكذا: « من خلال هذه النظرة لم يشعروا [المستشرقون] بسعة علم النبي ومقدرته الفذة في معرفة التراث الديني واللغات العبرية والسريانية واليونانية ...إلخ».
أنا أحتكم إلى الحسّ العقلاني للقارئ وأتساءل هل أن اعتراضا من هذا القبيل يحلّ المشكلة ويُبدّد شكوك العلماء من أن القرآن هو من صنع رجل واحد؟ وهب أننا سلّمنا باعتراض جعيط، واعتبرناها فعلا أمورا مستحيلة على شخص واحد، ألا تُتيح لنا هذه المحالات تَغيير وجهة نظرنا، والبحث في جهة أخرى، أي اعتماد أطروحة بعض المستشرقين الذين اعتبروا القرآن عملا جماعيا متأخرا، فيه استدراكات وحذف وإضافات، وأنه لم ير النور على حالته الراهنة إلاّ في القرن الثاني للهجرة؟ لكن هذا الرأي إن لم يكن من باب الكُفر والهرطقة، فهو بالنسبة لجعيّط من الخيال والجهل بمكان: « ولستُ من الذين يعتقدون أن النص القرآني يتطوّر مع الزمان والظروف. فالأساسي فيه لا يتغيّر من الأوّل إلى الآخر . موقف كلاسيكي لكل المؤمنين، وهو من باب المنافحة التبريرية وبالتالي غير قادر على الإجابة الضافية أو حلّ كل المعضلات المطروحة. لكن جعيّط يتعجّب من المستشرقين الذين لا يؤمنون بما يؤمن به هو، الشيء الذي يدعونا فعلا إلى التوجّس منه، لأن المؤرّخ بما هو كذلك ـ وهذا أمر مبدئي لا جدال فيه ـ لا يعترف بالألوهية والمقدّس والتعالي، وهي ليست بالفرضيات الداخلة في مشمولات علمه وخارجة تماما عن مناهجه وأهدافه. المؤرخ الجدّي يترك هذه المعتقدات لصاحب اللاهوت والفقه، أمّا التاريخ والفلسفة وعلم الأديان المقارنة فلا شأن لها بذلك.
القرآن، كخطاب ورسالة دينية، مربوط بالوحي. ما الوحي؟ إن رجل العلم الذي يبغي اكتناه كلّ شيء بعقله لا يركن إلى التفسيرات الماورائية وإلى العلل الغيبية، ولا هو مستعدّ أن يصادر ملكاته الذهنية لحساب الأسطورة: كلّ شيء يمكن تحليله وفهمه عن طريق بسيط العقل، وما من شيء يخرج عن سلطانه. المؤرخ جعيّط، لا يرى هذا الرأي، فمنذ تناوله إشكالية الوحي، التي وَعَد التكلّم فيها بموضوعية وروح علمية، يُقلع عن إعمال آلة العقل صادّا أمامها أيّ منفذ وذلك في تناقض مع ما وعد به القارئ وأعلنه مسبقا بشيء من التباهي. الوحي بالنسبة إليه هو: « العملية التي تمّ بها التبليغ إلى الرسول والتجربة الفريدة التي عاشها. وليس همّنا أن نستكنه هذا بالعقل فهو أمر مستحيل ولا حتى أن نسوق نظرية فلسفية حول الوحي في الإسلام .
لا تاريخ الأديان ولا الفلسفة ولا علم النفس ولا العلوم الإنسانية الأخرى، من علم اجتماع وأنثروبولوجيا، ولا العقل ومبادؤه بمقدورها استكناه حقيقة الوحي، لأنه أمر متعال وفريد من نوعه، وغير قابل للخضوع إلى أي نوع من أنواع المعرفة الإنسانية. السؤال إذن: ماذا تبَقى مِن كلّ تلك العلوم الحديثة؟ وما دور العقل في اكتناه حقائق الأمور؟ لا شيء، فالطريق إلى الوحي مسدود من الأساس. وقد يكون هذا المنحى الذهني الذي اتبعه المؤرخ، وصدّ به الأبواب أمام العقل، سببا لعدم حمل كلامه على محمل الجدّ وعدم الثقة بما رواه عن منهجه الذي أفصح عنه بهذه العبارات: « سَيتّجه مجهودنا إلى مقاربة تاريخية مُعتَمدة على النصوص وعلى المقارنة، وإلى مقاربة ظواهيرية . ونحن نتساءل مرة أخرى: هل أنّ المقاربة التاريخية للوحي وللقرآن والاعتماد على النصوص واستخدام الظواهيرية هي أمور عقلية أم لا؟ إن كانت كذلك، فإن القو
سالم فتيحة نوال
2018-05-30
مقال جيد يحدد توجهات هشام جعيط الفكرية ، انا بحاجة الى مقالات مماثلة للمفكر او كتب و مجالات متعلقة به شكرا رمضان كريم
08-أيار-2021
13-تشرين الثاني-2010 | |
19-تشرين الأول-2010 | |
24-نيسان-2009 | |
18-آذار-2008 | |
الإحترام والتسامح بين المسيحية والإسلام / جوليو تشيبلوني ــ ت |
18-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |