"مندور"، ابنُ الزمن الجميل
2010-05-24
في مثل هذه الأيام، قبل عقود طويلة، خسرت مصرُ أحد رموزها الجميلة التي كانت غزيرةً حتى الستينيات الماضية تزّين نحرَ مصرَ المُشعَّ بدُرِّه آنذاك، قبل أن يشِحَّ وجودُها في زمننا الحالي الذي نُحِرَ فيه قسمٌ كبير من بريق مصر القديم، ولستُ أدري كيف سمحنا بهذا! كان اسمه محمد مندور. وفضلا عن عشرات الخيوط الأخرى، فإن أحدَ خيوط افتتاني الضخم بـ’طه حسين‘، يأتي من أنه حقق بامتياز نموذج "المثقف" كما أتصوره. "المثقف العضوي"، كما رسمه الفيلسوف والمناضل الإيطالي أنطونيو جرامشي. المثقف الذي مكتوبٌ عليه دورٌ حيويّ منذورٌ أن يؤديه لمجتمعه. المثقف المنشغل بأزمات وطنه ومشاكل مواطنيه. المثقف غير المنعزل في برج عاجيّ يقرأ ويكتب ويُنَظِّرُ ثم لا يفكر مرّةً أن يطلَّ من نافذة برجه ليرى ما إن كانت أوراقُه التي يطيّرها في الفضاء مشغولةٌ بمشاكل الناس حقًّا، أم تدور في فلك النظرية والهيوليّ المهوّم. ثم هل فعلت تلك الأوراقُ أثرًا أو بعضَ أثر يفيدُ أولئك الذين يمرّون جوار البرج الشاهق. لا شك أن شيئًا كبيرًا من هذا ينطبق على محمد مندور، مثلما ينطبق على رمز مصر الجميل طه حسين. ولا غرابة في ذلك، بما إن أحدهما تلميذُ الآخر ومستلِمُ المشعل من يده. كلاهما انشغل بقضايا التنوير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهموم البسطاء. كلاهما كان مشروعَ حياته بثُّ النور في العقول المعتمة. رغم أن لكليهما من الدراسات والكتب والفكر والتنظير المنهجيّ، في كثير من الإشكالات الثقافية والاجتماعية، ما يكفيهما، ويزيد، ليكونا قد أدّيا الواجبَ تامًّا غير منقوص، تجاه الوطن والعالم والحياة. من الخيوط الأخرى لذلك الافتتان الذي أدينُ به لطه حسين، ومن بعده محمد مندور، احترامُ القارئ. وقد لا تكفي آلافُ الأوراق لنتكلم عن احترام طه حسين قارئه من حيث الحرص المفرط على سلامة اللغة وعذوبتها، والاختيار المدقق لمفردة دون سواها، ثم سلامة الفكرة، والتوثيق العلميّ لكلّ معلومة أو قطعة من المعرفة يسرّبها لقارئه. وينطبق الحالُ بدقة على محمد مندور كذلك. وأنقلُ هنا ما ذكره أحدُ تلامذة مندور النجباء "د. فوزي فهمي"، حين قال إن مندور، وبعد إلحاح مريديه عليه بأن يجمعوا محاضراته لينشروها، كان يجلس إليهم ليصوّبَ وينقّحَ ويضيفَ ويعدّلَ ويعودَ للمراجع ليوثّقَ معلومةً أو يحدّثها قبل أن يوافقَ على خروجها في كتاب بين يدي القارئ. أقارن بين ذلك وبين ما يفعله بعضُ الكتّاب الآن من امتهانٍ للّغة، وابتذال للفكرة، وانعدام الشعور بالرهبة من القارئ؛ وهو سُلطةٌ مُهابةٌ لو يعلمون. القارئُ هو المتنُ الذي يقفُ على جانبيه هامشُ الكتّاب والفنانين والموسيقيين والشعراء. فكيف لا يحترمُ الهامشُ المتنَ؟!
كان ذلك الاحترام وتلك الاستنارة في عصر شهد مصريين عِظامًا مثل محمد عبده، وزكي نجيب محمود، وطه حسين، وأبي الليبرالية المصرية أحمد لطفي السيد. تُرى لو كان بيننا الآن، هل كانت أزمة "ألف ليلة وليلة" "تجرؤ" أن تحدث؟!
فاطمة ناعوت
[email protected]
النشر الورقي المصري اليوم
النشر ا|لألكتروني خاص موقع ألف
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |