رواية / "العربي" رهينا ـ ج1
2010-05-28
خاص لف
( أ )
"الفاجر فاجر ولو ما هو بقادر" . إحدى لزمات أمه الأثيرة . كانت ترددها كثيرا بمناسبة أو دون داع . اعتاد على سماعها وترسخت ضمن محفوظاته الأسرية ، ولم يعرف سبب صدورها أو قصدها منها ، ولماذا كانت تدور على لسانها . لم يسأل أو يبحث . اليوم ضبط نفسه متلبسا بترديد مقولة أمه هذه أكثر من مرة . حدّث نفسه :
- كلام فارغ مسجوع ، حشو لا معنى له !
فكأنما عـقـَّبَت عليه هامسة :
- حين ترددها يعني أنك قد مارست فعلا من أفعال الفجور.
- لم أفعل شيئا من ذلك ، إلا إذا كان من الفجور أن أعَرِّي الشرطِيـَّة من ملابسها – في باطني– بينما كانت تأخذ أقوالي .
- إنه لكذلك ، فإتيان الفجور تخيُّلا فجور أيضا .
مط شفتيه وذقنه المقوسة في سخرية حانقة متمتما :
- إذن الناس جميعهم فاجرون !
( ب )
في البدء برزت صلعة رأسه المستدير الناتئ قليلا من الخلف ، ثم قامته المديدة . خرج من فتحة مترو "غران بيّا" في شارع "لا مونتيرا" وانحدر معه جنوبا بينما كان يتلفت ناظره بهدوء يمنى ويسرى يتأمل وجوه المومسات اللاتي بهن يشتهر الشارع . كان يعلم مسبقا أنها ليست موجودة ، فقد هجرت جـَنـّات العمل في الشارع بعد أن تعرفت على شاب إسباني ، وتعيش معه الآن في إحدى ضواحي مدريد . وحينما راح يتفرس وجوهن خلسة من وراء نظارته الطبية الغامقة ، التقط همسها :
- ها أنت تمارس الفجور خفية !
- لا يا عزيزتي ، لم تصدقي هذه المرة ، إنما يذكرنني بالسمراء جنات فحسب .
في أحد أيام عطلات نهاية الأسبوع كانا يسيران معا ، وهو كعادته معها كان آخذا في الحديث عن أمجاده النسائية ، فباغتته ضاحكة :
- ألا تكف عن استعراض بطولاتك الوردية ؟
- تبعثين فيّ ذكريات عزيزة مضت .
- ولم تعلمك خبرتك الطويلة أن لا تحكي للحاضرة شيئا عن السابقات !
- أنت حالة خاصة .
- لأنني لست لك وحدك !
- لا أقصد ذلك . أنت امرأة حرة ، وكذلك علاقتنا ، ارتباط حر لا تخنقه التزامات من أحد الطرفين على الطرف الآخر.
نظر في ساعته وتمتم : بالكاد لدي عشر دقائق ، فموعدي الساعة الخامسة . فبادرته :
- متلهف على اللقاء وحريص على الموعد الذي كان سيضيع عليك لو كان استمر حجزك في المخفر ساعة واحدة أخرى !
- أوه ، ليلة ليلاء .
تذكر شيئا من مرارة ليلة الأمس وأوجاع ضحى اليوم ، فامتدت أصابعه الطويلة النحيلة تحت المعطف المفتوح لتحرر أيضا أزرار سترة البذلة ، ومرت يده اليمنى سريعا على بطنه المائل إلى التكور، ومد أنفه قليلا إلى عبّه يتشممه ظنا أن روائح الخمر والقيئ والعرق لا تزال عالقة بملابسه ، ثم تركه مفتوحا للتهوية . إنه يعرف جيدا هذه المنطقة ويعلم أين شارع "لا أدوانا" .
استمر في سيره متخذا جانب اليسار ، ترك شارعين ثم انعطف في الثالث ، ورفع بصره ليقرأ لافتـة الشارع ، ودون مشقـة وجد رقم 19 حيث فندق "اِلينا ماريا بالاس" . وقبل أن يدلف من باب الفندق أعاد غلق السترة وتأكد من لياقة هندامه وارتاح إلى وجود معطفه الذي يخفي بذلته المكرمشة وقميصه العرقان ، وسوّى براحتيه خصلات شعره القليلة المتهدلة على أذنيه وقفاه ، وأحكم تثبيث نظارته ، ثم اتجه إلى الاستعلامات وسأل عن مكان الكافتيريا .
( ج )
على طاولة تواجه مدخل كافيتريا الفندق اتخذ مجلسه مرتقبا اللقاء المأمول . دارت عيناه بتمهل تستطلع المكان . كاد أن يطلب كأسا من النبيذ ولكنه تراجع خشية أن تزداد حالته سوءا ، فلا يزال رأسه يئن من الصداع ومعدته خاوية مضطربة وإن كانوا قد أعطوه في المخفر فنجانا من القهوة السوداء مع عدة قطع من البسكويت . وأشعل لنفسه لفافة تبغ .
لا أخفي لهفتى على لقائه . أخيرا وبعد طول انتظار سيسعد قلبي برؤيته – نبس لسان حاله .
- ولكن أظن أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للرسول الذي سيحمله إليك .
- تقصدين طارقا ، معرفتي به معرفة سطحية . كان صبيا في نحو الحادية عشرة حينما رأيته آخر مرة .
- ولكنك تعرف أباه عبد المولى ، أتذكره ؟
- بلى .
- طبعا ما يعنيك هو الرسالة التي يحملها إليك .
- وهل ثمة شك في ذلك ، إنه يحمل إليّ "لسان العرب" ، أو يُعيده إليّ .
- فتستعيد المكانة الضائعة !
تجاهل تلميحها واستمر متحدثا :
- عشنا معا سنوات طوال . ولدت و"اللسان" يحتل صدر مكتبة والدى ، وكثيرا ما كان يشير إليه قائلا باعتزاز أنه ورثه عن جدى . عشرة مجلدات بلون أخضر، والبصمة الذهبية بالخط الثلث توشِّح غلاف وكعب كل مجلد ، وفي أسفل الكعب نقش اسم مالك "اللسان" : العربي الغندور. عظمة مهيبة تقبض على الذاكرة ، وبعد وفاة الوالد أصبح "اللسان" في ملكيتي ، ونقلته إلى جوار المكتب .
- بعد أن أخليت مكانا في وسط المكتبة لصورة الزعيم بالحجم الطبيعي !
( د )
لم يكن "لسان العرب" بالنسبة له معجما فحسب ، يهرع إليه للبحث عن معنى مفردة صعبة أو غريبة أو للتأكد من كلمة استخدمها أو حتى للمطالعة الحرة بقصد إشباع الفضول ، بل من المدهش أنه بعد أن تجاوز مرحلة الطلب ، أي في منتصف عقده الثالث قل استخدامه للمعجم وبالكاد أصبح يطالع فيه . غير أن "اللسان" كان ملهمه في الكتابة حسبما اعتقد . وجوده إلى جانبه كان وحيا ينسال عليه كلمات وصفحات ، قصائد ومقالات وكتب . واختبر الأمر عدة مرات ، حاول الكتابة في أماكن متعددة ، في الجامعة حينما كان طالبا ، في مكان عام ، في حديقة أو مقهى ، في مكتبه بجريدة "الوطن الكبير" ، بل في شرفة منزله ، ولم يستطع إلا في غرفة مكتبه والمعجم أمامه أو بجانبه . عرف السر وأخفاه عن الجميع ، وأدرك أن استمراره في الكتابة مشروطا بحضور "اللسان" الموروث إلى جانبه .
مرة أخرى كاد أن يطلب كأسا من النبيذ أو الويسكي ليحتفل بالمناسبة ، ولكن شعوره باستمرار توعكه من خـُمار الليلة الفائتة ، جعله يؤثر تأجيل الاحتفال بلقاء ابن منظور إلى حين .
وأبصر شابا يدخل الكافتيريا حاملا كيسين متوسطين أسودين . إنه هو لا شك ، هل تضاءل اللسان إلى هذا الحجم ؟ ما طلبته من أختى هو لساننا ، لسان الأسرة الموروث أبا عن جد ، طبعـة بولاق 1882 ، فما هذا الذي يحمله ؟ اعترته خيبة شديدة حتى هم بالتراجع عن لقاء الشاب . ربما لا يتذكر هـيئتـى الآن ، فلأتجاهلـه إذن . ولكن حامل الكيسين اتجه مباشرة صوبه ، وضع حمله على الطاولة ومد يده إليه قائلا بابتسامة حلوة :
- أهلا يا أستاذ عربي ، أنا طارق عبد المولى .
رد على تحيته ، واستمر طارق متحدثا بينما كان يتأهب للجلوس في مقابلته :
- أحمل إليك تحيات وسلامات الجميع ، خاصة الست زاهية وو ...
وهو بسرعة خشية أن ينسى هنأه على خطبته إلى علياء بنت أخته ، تم انتقل للحديث عن الأحوال الجوية ، عن برد مدريد القارص خاصة في فترة أعياد الميلاد ، ثم سأله عن الأوضاع في الوطن ، فتكلم الشاب بإيجاز عن الظلم وسوء الأحوال المعيشية والفساد ومعاناة الناس ، وبالأخص الذين يعيشون تحت سلطة الاحتلال الأجنبي في شمال البلاد .
وتوقف الشاب برهة ، فسأله العربي عن سبب مجيئه إلى إسبانيا ، وإن كان يعلم السبب على العموم ، فقال طارق بإيجاز واف إنه كونه باحثا زراعيا مرموقا في النخيل تعاقدت معه شركة زراعية إسبانية لمدة ستة أشهر ضمن فريق من الباحثين الزراعيين من آسيا وأفريقيا لزراعة وانتاج التمور في "ألمرية" و"جزر الكناري" ، وأنهم حجزوا له ليلة في هذا الفندق ، وفي مساء الغد سيتوجه إلى مقر العمل في "ألمرية" . تمنى له التوفيق في عمله .
وبادر طارق بالاعتذار – مشيرا إلى الكيسين– عن عدم تمكنه من إحضار طبعة "لسان العرب" الأسرية ، فحجمها الكبير حال دون أن يحملها معه في الطائرة ، ولهذا اشترى هذه الطبعة الحديثة في ستة مجلدات ، فالفائدة واحدة ، على حد قوله ، ويمكن استخدام هذه الطبعة ، كما أنها أكثر سهولة وعملية حسبما قال له الكتبي ، وهنا صاح العربي بامتعاض مكتوم :
- لا ، لا . ليس لها نفس الأثر. طبعة بولاق تليدة ، تحمل عبق الزمان ...
- المهم أنها تحتوى كل ما تضمه العتيقة – قالها بأدب ؛ تعرف ، كنت أريد أن أحضر لك ديسكا يحتوى على عدة معاجم .
أشاح العربي بوجه متلهيا بالنظر إلى أنوار السقف ثم بإشعال لفافة تبغ . واستأنف طارق الحديث قائلا :
- ولكن قلت لنفسي ربما يكون سهلا الحصول على الديسك في إسبانيا . وعلى كل حال ، أنا آسف جدا .
ولم يجد بُدًا من شكره ، وأردف :
- ربما تحتاج أنت أيضا إلى معجم "لسان العرب" أو إلى أي معجم آخر.
- لن أحتاجه في شيء ، أنا لست كاتبا مثل حضرتك ، غير أنه ربما أحتاج إلى معجم إسباني عربي ، وقد دبّرت حالي واشتريت واحدا .
تبادلا أرقام هواتفهما ، وتودّعا ، وخرج العربي من الفندق يئن إحباطا .
( هـ )
ها أنت يا عربي بعد طول انتظار مُعَللا النفس بالآمال تجني الخيبة . كنت تحلم باستعادة "اللسان" الموروث ، وأن يرجع إليك الإلهام الذي طال غيابه ، فتكتب وتكتب من هنا وتقيم الدنيا هنالك ، ويأتون إليك متهافتين لاستقطابك وأنت بعد تمنـُّع وتمعـُّن تختار الأقوى والأعلى ، فتستعيد سطوة الأمس والمجد الغارب . وأحسّ أن يديه لا تقويان على حمل الكيسين وأن تنافرا كجدار من الصلب انتصب قائما بينه وبينهما . سأتركهما بالقرب من أول سلة مهملات أجدها في طريقي .
ولما وصل إلى التقاطع مع شارع "لا مونتيرا" عاد يتطلع في وجوه المومسات المتناثرات على الجانبين .
في وقت سابق وفي لحظة إخفاق مماثلة تعرفت على جـَنـَّات ، فأنقذتني من الانهيار ، أين لي من جـَنـَّات ؟
قادتني إليها خطوات قدرية ، وقتها لم آتِ إلى هذا الشارع بحثا عن امرأة ، بل أنني لم أكن أفكر في ذلك على الإطلاق . كنت في البار أحتسي كأسي وابتلع دموع الخزى وسمعت أصواتا عربية تأتي من خلفى ، فالتفت فضولا ، فإذا بسمراء فارعة تحادث شابا عربيا بصوت جاد ، أو بالأحرى كانت تتكلم ببرود سيدة أعمال لا يفارقها الابتسام ، ثم انصرف الشاب ، وفي هذه اللحظة التقت نظراتنا ، وكأنني كنت على موعد مع الحظ ، رفعت كأسي محييا ، فابتسمت ، ورغم يبوس روحي وثقل قدماي نهضت وتوجهت إليها حاملا كأسي . ولكن لما حدثتها بالعربية لمحت شيئا من الخيبة على وجهها وانطفأت ابتسامتها ، فقلت لها مصطنعا الدعابة :
- العرب مخيفون !
- لا ، العرب يخافون من بعضهم البعض .
- عندكِ حق .
- وأسوأ من هذا يستغلون بعضهم البعض .
- ولكن هذا طبع بشري .
- نحن نتحدث عن العرب وليس عن البشرية – قالتها بحدة . يساومون كثيرا .
- ألا يساوم الآخرون ؟
- بلى ، أحيانا ، ولكن العرب يودون لو كانت الخدمة كلها مجانا . هذا الشاب الذي كنت أتكلم معه كان يبغي أن أقضى عطلة نهاية الأسبوع معه ومع اثنين آخرين ويريد أن يدفع لي سعر ثلاث ساعات فحسب .
لا أعرف كيف حدث ذلك ، ولكنني انطلقت قائلا :
- أنا لن أساوم ، ولكنني أدفع ما أنا قادر عليه .
واتفقنا دون نقاش ، وأخذتها إلى الفندق المتواضع الذي كنت أسكن فيه .
( و )
تظاهر أنه يتأمل الواجهة الزجاجية لأحد محلات المصنوعات الجلدية ، ونظر إلى الكيسين .
- إذا وضعتهما على الأرض ثم تغافلت عنهما وتركتهما ، ماذا يمكن أن يحدث ؟
- وكيف يطاوعك قلبك على أن تترك ابن منظور وحيدا مهجورا في هذا العالم الغريب ؟
- إن شأنه ما عاد يعنيني ، فهو ليس مَنْ أعرفه .
- إنه هو ولكن في ثوب حديث .
- تعلمين أنني لا أطيق الأثواب الحديثة .
- دعك من هذا الكذب الآن ! فإن كنت تعتقد في "اللسان" فها هو معك . كما لا تظن أن ترك الكيسين سيمر هكذا بسهولة ؛ فها هو مخفر شرطة المنطقة على بعد خطوات قبالة المحل الذي تقف أمامه .
اختلس النظر إلى الشرطي الواقف أمام باب المخفر حيث كان يتحدث مع فتاة ، وشعر أنه لو ترك الكيسين للفت انتباهه ، بل لو استمر واقفا أكثر مما يجب لأثار أيضا التفاته . ولكن ليس لديّ سمات إرهابي ، فأنا أقترب من الستين و...
- العربي إرهابـي ولو كان في الثمانين من عمره !
- فلأجرب .
وتظاهر أنه قد وجد ضالته في واجهة المحل الزجاجية ، واقترب بوجهه كثيرا منها وكأنه يقرأ السعر المدوّن ، ثم متصنعا الذهول ابتعد رويدا رويدا وبدأ السير تاركا الكيسين . ولم يكد يبعد عدة خطوات حتى سمع الفتاة التي كانت تتحدث مع الشرطي تناديه :
- سنيور سنيور!
فالتفت إليها ووجدها تشير إلى الكيسين . فقال سريعا متظاهرا بأنه فهم المقصود :
- غراثياس غراثياس .
وعاد وأخذهما سريعا بينما كان الشرطي ينظر إليه متفحصا .
- إثارة صبيانية كنت في غنى عنها . ببساطة تحمل الكيسين ، وقبل أن تصعد إلى مسكنك ترميهما في صندوق قمامة البناية ، أو تأخذهما إلى الشقة وتفض لفائفهما ثم تتصرف في المعجم كما تشاء .
لا بُدّ أن كل كيس يحتوي على ثلاثة مجلدات ، الأمر لا يحتاج إلى ذكاء ، فالكيسان متساويان في الحجم ومتقاربان أيضا في الوزن .
اجتاز ساحة "بويرتا د صول" المكتظة بجموع المشترين والمتسكعين ، ثم شارع "مايور" ، فيسارا إلى شارع "اِسبارتيروس" . لم أعد أحتمل العطش .
- كنت قبل أقل من ساعة تود الاحتفال بابن منظور ، والآن تريد أن تسد الغائلة ، غائلة الفشل . هكذا أنت دوما ، لا يمكنك أبدا الاستغناء عن التعللات الفارغة !
ودلف إلى بار يعرفه منذ أيامه الأولى في العاصمة الاسبانية وعلى بعد خطوات من الفندق الذي كان ينزل فيه ، "فندق مدريد" ، الكائن في رقم 6 بنفس الشارع .
( ز )
وضع الكيسين على الكرسي المقابل له وراح يحتسي كأس النبيذ التي طلبها بينما كان ينظر من خلال الحائط الزجاجي إلى حركة الشارع الهادئة . كانت الساعة تقترب من السادسة وبدأ رذاذ المطر ينقر على الزجاج . هذه نقرة ارتطمت بالسطح فأصبحت قطرة سرعان ما جرت إلى أسفل في خط طويل متعرج ، وهذه أخرى في مستوى نظره وكأنها مصوبة إلى عينيه ، وأخرى أعلى رأسه ، وتوالى النقر وغبـّش الرذاذ الرؤية عليه ، ولكنه ظل يحدق في الأشباح البعيدة والأجسام الشائهة والأضواء الصفراء المتكسرة . وأطلت عليه لوحة الفنان صفوت عباس معلقة على جدار غرفته في "فندق مدريد" . إنه لا يعرف عنوانها ولم يخبره به الفنان وما سأله ، ولكنه كان دائما مشدوها بها ويخاف منها ، وحينما احترقت في الحريق الذي طال مكتبته أحس بشيء من الارتياح ، غير أنها ظهرت له هنا في الفندق عندما استيقظ ظهر اليوم التالي بعد الليلة الأولى النهمة التي قضاها في أحضان جـَنـَّات .
في ذلك اليوم استيقظت على إخضرار عفونة يسود الغرفة ، إخضرار كالح تتخلله خطوط رمادية داكنة وخبطات زيتية سوداء ، ووجدتني أنهض عاريا وأجلس القرفصاء بين النافذة والسرير ، أخذ رأسي يتضاءل وينكمش ويفقد معالمه حتى أصبح أيرا أخضر مائلا إلى اليسار، واستطالت ركبتاي . ولم تلبث أن نهضت جـنـَّات عارية : جسد أخضر كابي يتمطى ، ورأس دقيق لا يستبين منه غير شعر أسود هائش منفوش ، أعطت ظهرها لي وراحت مؤخرتها تعلو وتعلو وتستطيل فخذاها وتتمدد ساقاها ثم تتباعدان وأصبحت في جلستي في مستوى مقارب لمفرق ردفيها ، وعلى الجدار المقابل كان الضوء الباهت يعكس ظِلّ النافذة ، قضبانـا عاليـة رمادية ورائها جدار أصم . كانت اللوحة تحتل جدار غرفتي ليلتين أو ثلاث ليال بعد كل ليلة أقضيها مع جـَنـَّات أو مع غيرها .
فاجأه للحظة ضوء كشاف سيارة اخترق الزجاج المغـبـّش ومضى سريعا . كان المطر قد ازدادت وتيرته . ها قد أصبحت أسير الهطل ولا مفر من الاستعانة على الحبس بكأس أخرى . نظر إلى الكيسين الملقين أمامه على الطاولة وهمس لنفسه حانقا :
- ذلك الشاب لا يعرف قيمة طبعة لسان العرب الأصلية .
وعاجلته صاحبته :
- حدِّد كلامك ! إنها الأولى وليست الأصلية .
- أراه عمليا ، المعجم عنده أداة لتحقيق غرض ، وقد أحضر لي الأداة ، الطبعة الحديثة . لاشك إنه جاهل ... أقصد أنه جاهل بقيمة الطبعة القديمة .
- وما قيمتها ؟ قل لي !
- إنها موروثة أبا عن جد .
- إذن قيمتها مستمدة من تقديرك الشخصي لها . هي لا تزيد عن الحديثـة في شيء ، بل هذه أسهل في البحث ، ولهذا قل مَنْ يعتمد الآن على القديمة .
- أراك قسيمته في الجهل بالقيم المعنوية وفي الاقتصار على تحقيق المنفعة .
- وماذا كنت تفعل في حياتك سوى الجري وراء النفع الخاص وبكل الوسائل ؟
- أليست سيرة الإنسان سوى تاريخ المصلحة أو المنفعة : بحثا وتحقيقا وصراعا واستمتاعا ؟ لا يمكن أن أكون استثناء في تاريخ البشر. كما أنني لم أضرّ أحدا في حياتي .
- الكذب ديدنك ، والعماء مرشدك . صحيح أنت لم تلحق الضرر بفرد معين ، طبعا باستثناء المنافسين لك على صدارة الصف ، ولكن كنت تنفع نفسك بإلحاق الأذى بالمجموع ، كذبت وخدعت ، نظـّرت وبرّّرت ، سكت وتعاميت .
نظر إلى الكأس نظرة حائرة وتأمل تموجات دخان لفافة التبغ المشتعلة ، استبانت صورته شوهاء منبسطة لا معالم لها ، فتافيت نفسه أمامه خطوط متعرجة ونقاط متباعدة لا رابط بينها . أحيانا تنطق صاحبتي المأفونة بالحق ، وأحيانا أخرى تلقي علي بخيوط غاربة من ذاكرتي .
- حقـّا ، إن ولعي بـ "اللسان" هو ولع بالطبعة القديمة فحسب ، وإلهامى مرهون بها .
- ولهذا تريد استعادتها لتعود للكتابة ، وإذا تحقق ذلك لك استرددت مكانتك المفقودة وعدت لممارسة الفجور فعليا . إنها الأداتية الشريرة يا صاحبي .
- وهل تنكرين ولعي بالكتابة ؟ - تساءل بهمس مخنوق .
( ح )
أجل ولد عاشقا للحرف رسما وصوتا ومعنى . كانت لعبته المفضلة أن يُشكـِّل من الحروف كلمات وجملا ، ورُزق قوة الحافظة ودوام المحفوظ ، وقادته الموهبة إلى أن يعبِّر عن نفسه وأفكاره شعرا رائقا ونثرا محكما . وفي الجامعة صار مشهورا وتنافست التيارات السياسية على جذبه إليها .
- ولكنه رفضها كلها وآثر خدمة الزعيم !
- تعنين خدمة الوطن .
نظر في ساعته ونهض بقدر من التثاقل ونظر إلى الخارج حيث توقف المطر. دفع الحساب ، و بفتور وأمل غامض بعيد أخذ الكيسين في يديه ، ثم خرج من البار متجها إلى حانة "اِل مادرونيو" ليلبي نداء معدته الخاوية .
( طـ )
العربي السيد العربي الغندور أو الأستاذ العربي عين من أعيان كتاب الوطن . نزلت به محنة لم يقدّر أحد وقوعها ، ولا هو نفسه ، وأخذته إلى أسفل السافلين . فقد اتهم بأنه يتعاون مع عصابة دولية لتهريب المخدرات وبتهديد أمن الوطن وسلامة أبنائه وتخريب اقتصاده . ولم تشفع له مكانته عند الزعيم ودالته على المتنفذين وعلاقاته المتشعبة ، وكأن الكون اجتمع على التخلص منه . وأدين بالسجن عشرين عاما على أن يقضي مدة الحبس متنقلا بين السجون الوطنية إمعانا في التنكيل والتجريس . فما أن يعتاد على الحياة في أحد السجون حتى ينقل إلى آخر، فأطلق عليه "السجين الجوال" . والعالمون ببواطن الأمور يعلمون أن التهمة ملفقة ، وأن الحقيقة هي أنه كان عشيقا لامرأة عزيز الدولة وأنهما ضبطا متلبسين في أحد أركان الغرام ، ولكن السر المكنون كان فاشيا بين عامة الناس . كما كانت ألسنة السوء تردد أن عزيز الدولة ، يد الزعيم وعينه وأذنه ، لما كان غضب غضبته الهائلة تلك لو أن العربي توخّى سبيل الرصانة والكتمان في علاقته تلك بدلا من تباهيه بها واستخفافه بسلطة العزيز.
وكان السجن للأستاذ العربي ضربة هائلة في صميم منظومة عشقه الثلاثية : الكتابة والنساء والخمر. وترتيب المنظومة على هذا النحو ليس ترتيبا تفضيليا بقدر ما هو ترتيب زمني محضّ . إذ عرف الكتابة طفلا ، ثم النساء مراهقا ، وأخيرا الخمر في غضاضة الشباب . ومع ذلك فالعشق الأول كان أيضا أداة وفـّرت له إشباع ولعيْه الآخرين . والغريب في الأمر أنه على مكانته المرموقة وتنفذه لم يجمع ثروة ، ولو شاء لكان من الأغنياء ، وإنما اكتفى بأن يعيش في بحبوحة .
وأنهك السجن صحة الأستاذ العربي ، وسرعان ما أخذت في التدهور ، خاصة بسبب كثرة تنقله بين مختلف السجون ، ومعاناته من تناقض أجوائها وتبدل أحوالها . ولكن هذا التنقل أصبح خبرا يتجدد في الصحافة مع كل انتقال جديد ، ولم تلبث أن لفتت قضيته انتباه منظمات حقوق الإنسان العالمية ، وسُمح لوفود منها بعد إلحاح وضغوط بزيارة الكاتب السجين ، وفي إحدى المرات زارته ماري لوث ممثلة "منظمة الدفاع عن حقوق سجناء الرأي" الإسبانية غير الحكومية ، وتأثرت غاية التأثر بقضية "السجين الجوال" وراحت تشارك بحماس في الحملة الداعية للإفراج عنه . وأخيرا استجاب الزعيم للضغوط الدولية ووافق على إطلاق سراح العربي الغندور بسبب ظروفه الصحية على ألا يبقى في البلاد يوما واحدا . وبالفعل خرج من السجن مباشرة إلى المطار متوجها إلى إسبانيا التي قبلت استقباله لمدة ستة أشهر تبحث خلالها في أمر منحه اللجوء .
××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
07-حزيران-2010 | |
01-حزيران-2010 | |
28-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |