Alef Logo
ابداعات
              

"العربي" رهينا / ج الأخير

فخري الوصيف

2010-06-07

خاص ألف
( ع )
في البداية اختلطت السماء بالأرض على العربي الغندور مثل أغلب خلق الله . نقاط حالكة في الطريق لا تغير كثيرا من معالمها . كان قلبه مستودعا مكنونا للحب والعدالة ، ولكن تعلم أن يكيل منه حينما تعطيه الإشارة قرون استشعاره ، وحينها يصبح قلمه نصلا حادا يكيل به الطعنات إلى الظلم والفساد . وكانت القضية شغله الشاغل مثل الكثيرين من حملة القلم حينئذ ، ولكنه اختلف عنهم في أن همه بها كان مؤججا على الدوام وجرحا نازفا دون توقف ، لهذا كان أكثر الكتاب حدة وأعنفهم هجوما على الاحتلال ورفضا له وأعلاهم صوتا دعوة للتحرير.
- أجل ، ولكن ثمة عامل شخصي في موقفه ذاك – همست صاحبته .
وهنا تدفق الغضب في شرايين العربي مغمعما :
- أجل ، وليس هذا بعيب . فأمي كانت من ضمن أطفال الفلول المكسورة التي أجبرت على ترك ديارها . وولدت ونشأت وشببت على رؤية لمعة حزينة في عينيها حولها هالة دمع رقيقة متجمدة دفنت معها . ولم تكن كغيرها من أمهات النكبة اللاتي كن يقصصن الفجيعة ، ما كانت تحكي لنا ، أنا وأختى زاهية ، شيئا ولا حتى عن ذكريات الطفولة والبيت وأشجار البرتقال وموج البحر وأسراب السنونو، وبقصدية صارمة اقصت من حياتها سنيها الأولى . إذا مُسّ مخزون ذكرياتها من قريب أو من بعيد ، فإنها كانت لا تتطرق مطلقا إلى ما قبل تاريخ انتقالها مع أسرتها إلى العاصمة . وبالرغم من كل ما تجمع لدي من حكايات عن هذه السنوات المسيجة بفولاذ صمتها ، ومن كل ما قرأت ودرست تأكد لي أن المصيبة أعمق وأن الجرح غائر وأن الزمن بجبروته غير قادر على طمّه .
- وحين قرر الزعيم الاستسلام وقبول الواقع المفروض عنوة ماتت أمك حسرة ؛ ولكانت حسرتها أعظم لو شهدت ولدها ، ابن سنى الجمر والدمع المتحجر ، يصفق لحكمة الزعيم ويبرّر قراره .
وبصوت مخنوق صرخ :
- كذب ، بل رفضتُ القرار وخرجتُ مع الرافضين .
- ولم تتحمل ضربة هراوة عقابا لك !
ردّ بعنف :
- تلك الضربة كانت زجرة ، إنما كان العقاب الحقيقي هو طردي من العمل في الجريدة .
- صحيح ، ولكنك لم تقدر على تحمله لعدة ساعات ، وفي نفس اليوم الذي رجعت فيه إلى البيت ارتكبت الفجور.
- لا ، لم يحدث .
- كنتَ مرعوبا متيقنا من ضياع السلطة وفقدان رغد الحياة والحرمان من متعك الأثيرة ، فنويت العودة إلى الحظيرة بأي ثمن حتى ولو كان بإنشاء الكتاب الحرام .
- لم أكن أتوقع أن يعيد لي الكتاب وظيفتي المفقودة .
- بل توقعت ونويت كتابته في الحال ، فانتواء غشيان الفجور فجور أيضا . تذكر مقولة أمك الأثيرة : "الفاجر فاجر ولو ما هو بقادر" !
دعاه الحلق الجاف إلى تناول كأس أخرى ، فطلبها دون وعي بينما كان سادرا في أفكاره البعيدة .
- وماذا كان يمكنني أن أفعل ؟ أن أجلس في البيت أنعي حياتي ومستقبلي حتى أموت حسيرا ! أن أخرج هكذا بكل سهولة من الصف الأول الذي اجتهدت طوال حياتي للوقوف فيه إلى ظلمة النسيان ! وماذا كنت أعمل وأنا لا أجيد من الأعمال سوى الكتابة ؟ إنها حرفتي الوحيدة .
- تعليلات فارغة كالعادة ، فماذا تعمل الآن ؟ هل تكتب شيئا ؟ إنك تتسول الأمن والخبز.
- أجل أنا أبحث عن الأمن ، فهذا حقي كإنسان ، وأما الخبز ، فلا أتسوله ، أنا أعمل وأكسب عيشي ، أترجم النسخة الإنكليزية من تقارير "المنظمة" إلى العربية .
- بالضبط ، هذا ما قصدته ، إذن لكنت تستطيع الحصول على عمل مشابه في الوطن لو أردت .
- هراء ، أنت تعلمين أن المطرود من جنة السلطة مجذوم يفر منه الجميع ، الأقربون قبل الأبعدين .
- لا ، أقصد أن هذا كان ممكنا قبل أن تستجيب لإغراء العمل في الجريدة .
- ومن هو المجنون الذي لا يوافق على الكتابة في الجريدة الأولى ؟ إنه القدر.
- إن كنت تسميه قدرا ، فقد صنعته بأفعالك وأطماعك ، بفجورك وغرورك .
- لا ، إنه مصيرى الأسود الذي حدده لي ابن منظور، هو من نثر على رأسي الدرّ ورحت ألملمه .
- وقبلت الغواية جذلا!
- هل تناهى إليك خبر إنسان يعثر على جوهرة ويروح يبحث عن صاحبها ؟
- بلى .
- هذه من النوادر ، والنوادر تظل غرائب . على بـابـا يقبع في داخل كل إنسان ، إن تأته الفرصة فلن يتوان عن اقتناصها . لو لم يوح إليّ "اللسان" بالكتابة صبيا وشابا ورجلا ، لو لم يلهمنى الكتاب ، ولو لم يكف عن الإيحاء لي ، لما أصبح هكذا حالي . إنه المسؤول ، الجاني علي .
وأنهى قوله بخبطة قوية على المجلد الراقد أمامه فاهتزت الطاولة السماوية وانسكب كأس الويسكي وجرى السائل إلى "اللسان" ، فامتصته حوافه بسرعة وانتفخت بشكل مثير، وأسرعت النادلة بمنشفة وشرعت تنشف النقط القليلة الباقية على الطالولة بينما كان العربي صامتا لا يريم وكأن الأمر لا يعنيه ، وأخيرا نطق قائلا :
- لا يهم ، لا مشكلة ، إنه لم يعد نافعا لي .
لم تفهم الفتاة شيئا ، ولكنها ردت قائلة :
- بعد قليل سيتطاير الكحول ويجف الكتاب ويصبح صالحا للاستعمال .
- لا تشغلي بالك ، فمعي نسخ أخرى منه ، انظري !
وأخرج من الكيس الثاني اللفة وفضها وأراها المجلدات الثلاث الأخرى ، ثم أردف :
- يمكنك أن تلقيه في صندوق القمامـة .
فقالت الفتاة وقد لمعت عيناهـا قليلا :
- أيمكننـي الاحتفاظ به ؟
فرد سريعا وقد راقته الفكرة :
- طبعا طبعا .
وسألته إن كان يريد كأسا أخرى ، فأجاب بالنفي ومد يده بثمن الكأس الأولى ، فامتنعت ، وألحّ هو فأصرّت ، فشكرها وانصرف من المقهى .
( ف )
- بضربة واحدة أذللت ابن منظور وجنيت كأسا من الويسكي مجانا .. رائع!
تجاهل قولها ، إذ لم يشأ أن يفيق من حالة الانتشاء التى تعتريه ومن إحساس الخلاص من بعض الثقل الذي يضنيه . لفحه الهواء البارد بقدر من الإنعاش وشعر وكأنه لا يزال في أول الليل . وكان في هذا حجة كافية ليكمل دورة الشراب . لم يفكر كثيرا ، فهذا أوان القنينة ، وحده معها بعيدا عن تطفل الآخرين .
اتجه في الحال إلى المحل الصيني الذي لا يغلق أبوابه حتى الساعات الأولى من الصباح . دلف إلى المحل وألقى التحية على رجل صيني مستدير قصير كأنه مستنسخ من تمثال بوذا جالسا وراء طاولة البيع الزجاجية يشاهد فيلما صينيا .
وعبر العربي صفين طويلين من الأرفف المحملة بالبضائع حتى وصل إلى ركنه الأثير ، ركن المشروبات الروحية ، أخذ قنينة كونياك وعاد بها ، وضعها على الطاولة ، وقبل أن يهمّ بوذا بوضعها في كيس ورقن ثمنها على الآلة الحاسبة الإلكترونية اندفع العربي مجازفا بالقول :
- انتظر قليلا !
وأخرج بسرعة من الكيس الأسود مجلدا من "اللسان" ، وعرض بيعه على الصيني . وهذا بين الدهشة والابتسامة المرسومة دائما قال بأدب ولطف معهودين :
- وماذا أفعل به ؟
- تعرضه في المحل وتبيعه !
- إنه ليس محل وراقة وكتب ، فمَنْ يمكن أن يفكر في شرائه ؟
- ستجد من الزبائن من يستهويه الخط الجميل الغريب .
- أجل هو غريب ، ولكنني لست متأكدا أنه جميل .
- إنه بديع ، انظر إلى هذه الحروف المذهبة (مشيرا بسبباته النحيلة إلى حروف العنوان والمؤلف على الغلاف) .
- الخط الصيني أيضا غريب وجميل ويستهوي الكثيرين ولكن ليس لشراء كتاب بالصينية . ربما لاقتناء سلعة عليها نقوش صينية ، قميص مثلا أو آنية .
- وجدناها ! فكرة ممتازة . يمكنـك أن تطبع شيئا من هذه الحروف العربية ، مثلا العنوان ، على تي- شيرت ، وتبيع العشرات منها ..
سهم الصيني قليلا وأخذ يحدث نفسه ويجري حساباته : المحل يعرض للبيع كثيرا من اللطائف كهدايا ، فلماذا لا يضمّ إليها هذا الكتاب الغريب ، كما أن الخسارة ستكون محدودة إذا قايض الكتاب بالقنينة ، غير أنه راح يداور قائلا :
- ولكن هذه الفكرة ليس مضمونا نجاحها ، وتنفيذها مُكلـِّف . غير أنني مساعدة مني لك يمكن أن أترك لك القننية مقابل كتابين (موجها نظره إلى الكيس الذي في يد العربي) .
ولم يتردد العربي لحظة ، أخرج مجلدا من الكيس ووضعه فوق الآخر القابع على الطاولة ، فناوله الصيني القنينة ، ثم سأله مشيرا إلى المجلدين :
- أي لغة هذه ؟
بوغت العربي ولكنه أسرع بالرد :
- اللغة العربية .
أصاب الصيني انزعاج داراه بابتسامة كبيرة وقال بهدوء :
- إذا كان "القرآن" فلا يمكنني أن ...
- لا إنه معجم في اللغة العربية .
- أنا أعرف أنك تسكن في شارع "اِل رويّو" ، ففي حالة أن ...
- اطمئن !
( ص )
وانصرف العربي سعيدا ، دار نصف دورة في ساحة "لا كروث بيردي" ثم خرج إلى شارع "سيغوبيا" منحدرا باتجاه الجسر العلوي . يالها من صفقة مربحة ! تخلصتُ من مجلدين من اللسان وأذللتُ ابن منظور واقتنيتُ قنينة كونياك في خبطة واحدة . فعقـّبـَتْ قائلة :
- كنت تعيش من فضله كما تدعي ، والآن تبيعه بعدة جرعات من الكحول . ياللا الجحود !
وهو بنشوة المنتصر مغمغا :
- ما كان كان ، هو لم يعد يساوي شيئا ، ها قد رأيت أنه لم يلهمنى حرفا واحدا .
- وأنت ، ماذا تساوي ؟ غبرة تائهة حائرة تذروها الريح وتدوسها الأقدام .
عاد المطر للانهمار، فأخرج المجلد الباقي – الأول من أ إلى ج – ودسه تحت المعطف ، واعتمر الكيس البلاستيك الأسود ليحمي رأسه من طشيش المطر. خطى بشيء من السرعة حتى وصل إلى الدرج الذي تحت الجسر وجلس على الدرجة الثانية . فتح القنينة وبدأ في الرشف اللذيذ . لم يرُقْ له تأمل حركة السيارات القليلة العابرة ، فانتقل إلى الطرف الآخر من الدرج وولى ظهره إلى الطريق ، وترك الكيس على رأسه ليتقى الريح التي ازداد عواؤها ، وأحكم معطفه .
رفع ناظره إلى الجسر العلوي ، فلاحقته قائلة :
- إنه "جسر المنتحرين" ، ارتفاعه 23 مترا ، مكان مناسب للانتحار، عرفه الراغبون المتعجلون ، وجربه بعضهم ، فلم لا تحذو حذوهم ؟
- لم أفكر يوما في الانتحار ولن أقدم عليه لأني كأغلب الخلق أفضل الموت الهادئ الطبيعي ، ولن أستعجله وإن كنت أشعر به يحوم حوالي .
ولكنه بعد رشفة طويلة هادئة أردف ساخرا :
- لم لا أنحر وانتحر وأنتهي انتحاريا ؟ دعيني أشرح لك الفكرة : أصعد إلى الجسر ومن أحد جانبيه أحاول التسلل عبر الساتر الشفاف الواقي من الانتحار ثم ألقي بنفسي فوق سيارة من السيارات المارة فيحدث هرج واضطراب و... ، لا انتظري ! الأفضل أن أعود لجمع مجلدات "اللسان" وألقي بها فوق السيارات العابرة ، فتضطرب حركة المرور وتتصادم العربات ببعضها البعض . ثم أرمي بنفسي . وواصل مقهقها : وحينها تجدين مثل هذه العناوين الصحفية : «هجوم إرهابي جديد على مدريد» ، أو «عملية إرهابية بالقاء الكتب على السيارات!» ، أو «الكتب القاتلة سلاح عربي مبتكر في يد الإرهاب الدولي!» .. تخيلي ! آلاف الكلمات تنهمر كالرصاص ، أو «قنبلة حروف عربية تسبب خسائر جسيمة!» ، أو ...
- كانت الشرطية على حق عندما نصحتك بعد إنهاء المحضر بعرض نفسك على طبيب نفسي .
ما أجملها ! صورة مطابقة من جـَنـّات حتى في إيماءاتها . ظللت حائرا طوال مدة بقائي في حضرتها غير قادر على حسم الحيرة . في البداية رحت في الباطن أنزع ملابسها وأتحسس بنظري جسدها الرائع وأفحصه باحثا عن الشامة السوداء الكبيرة المستقرة تحت ثدي جنات الأيسر. وأثناء انهماكي في عملية الفحص الممتعة نادتني لتتحقق من شخصيتي قائلة بأدب : دون الأربي السيد الأربي الغندول ، فتعادل لدي الشك واليقين . وبالمناسبة لم أرد عليها ، ثم لما أعادت على الاسم بنفس الطريقة ، صححته لها بشيء من الجفاف ، فاعتذرت قائلة : بردون سنيور الغندور. وبعد انتهاء التحقيق ناولتني المحضر لقراءته والتوقيع عليها ، فلم أقرأ أو اهتم بشيء سوى باسمها المدون : الرقيبة ألمودينا غارثيا ألكاثار، فكان ذلك هو الجزم الذي قطع شكي واغتال أملي في أن تكون جـنـَّات . وأطلق زفرة حارة أكثر حرقة من الكونياك الذي يحتسيه .
وأجبره الصرير على أن ينكمش أكثر ولكن لم يصرفه عن تذكر جـنـَّات . ابتدأ اللقاء مع جنات انطلاقا من نفس هذا المكان حينما هرعت إليه هربا دون تدبير في يوم الخزي الكبير.
( ق )
حدث ذلك في مساء اليوم الذي أبلغته فيه ماري لوث بخبر منحه اللجوء . ورغم الأوجاع التي سببها له الخبر فقد أظهر الحبور ودعاها إلى غرفته بالفندق للاحتفال بالنبأ . لم يكن بمستطيع الفرار من التظاهر بالفرح . فالمرأة قد كافحت كثيرا في سبيل حريته ومن أجل أن يحصل على اللجوء . أعد شرابا وطعاما وانتظر مستسلما . لم تكن ماري لوث بالنسبة له امرأة كسائر النساء اللاتي عبث بهن ومعهن ، بل إنسانا راقيا ملاكا يخب في الأرض بلباس فضفاض ذي ألوان فاتحة : الأبيض والسماوي والنيلي ، تشع ضوءا هادئا ، وبشعر معقوص دائما إلى الخلف ، ونظارة طبية تظهر عينين واسعتين بنيتين ساكنتين وقامة طويلة نسبيا ونحافة تزيدها وضوحا الملابس الواسعة التي ترتديها ، ولا تستطيع العين العادية ولا حتى عين العربي الذئبية أن تلتقط انحناءة أنثوية واحدة في جسدها . ومع هذا كانت ذات صفاء روحي آسر يبثه صوتها المهموس ولفتاتها الحنونة ، دائما تربت بإحدى يديها على الكتف ، على الظهر ، على اليد ، وفي أحيان تأخذ بين يديها الرقيقتين يد مَنْ تخاطبه وتضغطها بحنان . لم تبعث فيه يوما شهوة أو رغبة وهو ممن يستثيره الخيال الأنثوي عن بعد . ولا يعلم أي شيطان تلبسه في مساء ذلك اليوم المشؤوم وجعل يزين له الرغبة في احتواء جسدها ، هل هو الامتنان لها ولما فعلته من أجله ، هل رغبته في التدليل على أنه ليس مثليا . حاول التخلص من تلك الفكرة الطائشة ، ولكن كانت الوخزات تشكه بعنف حين فتح لها الباب . اكتسى وجهه بالفرح ، واحتضنها وقبلها في فمها بحرارة بالغة . أصابها الدهش وشعرت أن القبلة مغايرة عن قبلات الود البريئة السريعة المعهودة ، واحتارت ماذا تفعل ، كان تصرفه غريبا وحالته غير طبيعية . تظاهرت بالانهماك في الأكل والشراب وفي باطنها اضطراب . أرادت التخلص من أسر البلبال الذي يسود المكان ، فاتجهت إلى جهاز الموسيقى ووضعت فيه أول ديسك وجدته ، وسرعان ما انبعث صوت فيروز الهادئ الصميم : سنرجع .. خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى .. سنرجع . وحين انتبه للأغنية تيبس واجما ، ثم انفتل إلى الحائط وراح يبكي في صمت ، ولم يلبت أن علا نشيجـه . أخفى وجهه بيديه ، وأغلقت هي جهاز الموسيقى . اقتربت منه ثم أخذته بين ذراعيها ، ولكنه استمر في البكاء ، وبعد حين اقترحت عليه أن يخرجا ، فاستجاب لها دون أن ينبس ، ولما أصبحا في الشارع قال لها بصوت خفيض ورأس منكس بين سيل من الاعتذارات إنه يفضل أن يكون بمفرده ، ثم انطلق هائما حتى جاء إلى حيث يجلس الآن . بقي جالسا على الدرج وقتا طويلا ساهما مشتت الفكر والإحساس ، ثم هام على وجهه مرة أخرى حتى قادته قدماه إلى شارع "لا مونتيرا" ودخل بارا ليشرب وهنالك التقى جـنـَّات .
(ر)
ازدادت وطأة البرد على جسده المتهالك ، رغب في إشعال لفافة تبغ ظنا منه أنها جالبة له شيئا من الدفء . أخرج علبة التقاب غير أن الأعواد المتلاحقة أبت أن تمنحه النار المنشودة ، ثم ألقى بالعلبة يائسا بعد أن نفدت أعوادها . وتلفت حواليه لعله يلمح شخصا يطلب منه قبسا ، فهمست له :
- ألا يكفي هذا الليلة ؟ ألا تعود إلى مسكنك لتنعم بدفئه ؟
لم يعرها التفاتا ، واستمرت عيناه في البحث . ولمح في الجانب الآخر بأعلى الدرج ، تحت الجسر مباشرة ، نارا وحولها شبحان . لم يتردد ، قطع الشارع بخطى ثقيلة وظهر منحن ، من تحت المعطف يقبض بإبطه الأيسر على مجلد "اللسان" ، والقنينة في يده اليسرى وبين أصابع يده اليمنى لفافة التبغ ، والكيس البلاستيك الأسود فوق رأسه . صعد الدرج بصعوبة ، وآنس الدفء حينما اقترب من النار المتوهجة المنبعثة من وعاء معدني كبير بـُنـّيّ اللون وحوافه سوداء رمادية .
ألقى التحية واستأذن في أن يشعل لفافة التبغ ، فتناهى إليه جواب بالإذن صادرا عن أحد الشبحين . كان شابا مربوعا ملتحفا بطانية ويعتمر طاقية صوفية زرقاء داكنة تقطعها خطوط رأسية حمراء ، تأمل وجهه الأكحل الباسم المألوف لديه ، وصفن قليلا ثم قال ببطء :
- لعلنا التقينا من قبل .
- أجل في المحل الصيني حيث ابتاع حاجياتي – رد الشاب سريعا .
وحين همّ العربي بالانصراف دعاه الشاب للجلوس معهما للاستدفاء ، وقبل الدعوة مرحبا بالدفء والونس ، وخلع الكيس الأسود من على رأسه ووضعه في جيبه . وتلفت حواليه ليبحث عن شيء يجلس عليه من بين المخلفات القديمة المتناثرة واختار ما تشبه علبة كبيرة من الصفيح مقلوبة وفوقها وسادة بالية ، ووضعها بين الشاب والشبح الآخر الذي كان ملتحفا أيضا بطانية ويجلس على أخرى مطوية . ولما لمح الكاسكيت الأحمر الذي يعتمره والنظارة السوداء والحقيبة إلى جانبه تعرف عليه على الفور. إنه العملاق الأبنوسي الذي قابله في الطريق منذ بضع ساعات . كان صامتا مشغولا بمطالعة كتاب في يده وحين أحس بحركة العلبة المقعد رفع سبابة يده اليمنى إلى مقدمة الكاسكيت بتثاقل محييا ، وعاد للمطالعة .
ناول الشاب المربوع قنينة الكوكا كولا الكبيرة التي كانت في يده إلى العربي ، فردها معتذرا وعرض عليه بالمقابل قنينته ، ولكن الشاب بادره قائلا :
- أنا لا أتناول المشروبات الكحولية ، ناولها إلى الدكتور إمبوي !
أدرك العربي سريعا أن ثالثهما هو الدكتور إمبوي ، فناولها إياه ، فاحتسى منها بتمهل جرعتين دون أن يتوقف عن القراءة وعن تمسيد سكسوكته الشعثاء ، وبدوره مرر إليه القنينة التي كانت أمامه . وما أن وصل السائل الحراق إلى جوف العربي حتى صاح :
- فودكا ! أنا لا أقدر على شربها إلا ممزوجة بشراب آخر خفيف منعش ؛ شكرا .
ورد القنينة إلى الدكتور إمبوي ، فأعاد هذا إلى العربي قنينة الكونياك . وراحوا يتناولون شرابهم في صمت تقطعه بين الحين والحين كلمات متناثرة مفردة ، تارة بالإسبانية والفرنسية ، وتارة أخرى بالعربية والوولف ، عن البرد والمطر والريح واحتفالات أعياد الميلاد ، وعن أفريقيا وإسبانيا . أنعشه الدفء الذي بدأ يسري في جسده . وبعد حين توقف الكلام ولم يعد يسمع سوى أصوات تجرع الشراب وقرقرة القنينات وحسيس اضطرام النار وهزير الريح ، وأحيانا بوق سيارة مارقة .
( ش )
اختلس النظر إلى رفيقي البرد والنار، وقال لنفسه : المطرودون من النعيم ! فسمعها تقول :
- أنت المطرود والطريد ، أما هما فلعلهما يبحثان عن حياة أفضل .
وألمت به نوبة سعال حادة أعقبتها بصقة مختلطة بدماء . والتفت إلى النيران المتأججة مبحلقا وغمغم :
- أنا أيضا كنت أتطلع إلى حياة أفضل والتقط ابن منظور رغبتي تلك وغرر بي إغداقا ثم ألقى بي من حالق .
وتابع بسخرية بينما كان ينزع نظارته ، مشيرا بطرف عينه إلى النار :
- وإن كنت غير مصدقة فها هو أمامك اسأليه !
- ما لا أصدقه هو إصرارك على إلقاء تبعات أعمالك على عاتق ابن منظور كأنك عبد له دون حول ولا قوة .
وخلال ذلك كانت الدهشة تلجمه وجحوظ عينيه كان شاهدا على ذلك حينما رأى رأسا يبزغ من النار يكسوه شعر طويل أشقر ووجه زهري تحيط به لحية عامرة شهباء . وبحلق مرعوبا في الهامة الحمراء فوجدها تصوب له نظرة حادة هازئة من عينين ضيقتين شهلاوين . وجذبته من البحلقة في النار حركة صادرة من الشاب المربوع الذي نهض واقفا يتمطى ، شد البطانية على كتفيه ، واتجه إلى أحد أعمدة الجسر الخرسانية والتقط شيئا ثم عاد يحمل قطعتى خشب يبدو أنهما كانتا ضلفتي خزانة وقال :
- آخر ما لدينا من وقيد .
بعدها أخذ البطانية الأخرى المطوية التي كان يجلس عليها وفردها على حاشية قديمة كانت مبسوطة ورائه بشكل رأسي ، ثم تمدد على الحاشية وأحكم الطاقية على رأسه وأذنيه والتف بالبطانيتن ورقد . وظل الدكتور يقرأ في صمت ، وبعد قليل أخذ هو أيضا يستعد للنوم . وضع الكتاب والنظارة في الحقيبة السوداء ، وأخرج منها طاقية صوفية رمادية طويلة ، ثم نهض واقفا وعاد ببعض ألواح من الكرتون ووضعها تحت الحاشية المتهرئة الممدودة خلفه ، ونفضها بضربات قوية من يده . اعتمر الطاقية ، رفع يده محييا العربي ، ثم شد الغطاء ، وراح في الرقاد .
أما العربي فلم يتحرك من موضعه ، كان ذاهلا خائفا ، يشعر بوهن شديد وألم في معدته وضيق في التنفس ، وألمت بأطرافه رعشة ، ومع هذا استمر في الشراب حتى أتى على قنينة الكونياك . وببطئ وتوجس أعاد النظر إلى النار فوجد شيخها لا يزال يتطلع إليه ساخرا متحديا . واصطكت أسنانه وأخذت القشعريرة تسيطر على كل جسده ، فتخيل أن النيران تخبو وشعر بالحاجة للقيام من أجل البحث عن قطعة خشب ليؤجج بها الصلاء ، كما اشتدت به الرغبة في التبول . حاول النهوض ، ولكن كأن قوة باطنية كانت تجذبه إليها ، فانكمش أكثر في نفسه . أراد أن يشعل لفافة تبغ ، وبذل جهدا كبيرا لينهض ، لكنه لم يستطع وسقط على الأرضية الباردة ، فزحف على مقعدته حتى اقترب من النار، وخلال ذلك سقط المجلد من تحت إبطه ، فألقمه النار دون تفكير، وأشعل اللفافة . عاد إلى الوراء قليلا فعثرت يده على قنينة الفودكا الفارغة ورفعها إلى فمه باحثا عن آخر نقطة بها ثم ألقى بها لاعنا إياها والنار وشيخها ، حينها شاهد الدكتور إمبوي رافعا رأسه ناظرا إليه ، ثم أشار إلى الكتاب الذي يحترق بسبباته ثم حركها بإشارة النفي وعاد إلى الرقاد . أشعلت إشارة الدكتور غضب العربي وتملكه شعور عدواني تجاه عود الأبنوس الممدد على مقربة منه وكاد أن يقذفه بقطعة من الخشب المشتعلة .
تسمّر نظر العربي دهشة حينما وجد النيران تلقي بشرر تبين فيه وجه الزعيم وعزيز الدولة وأعوانهما . في الحال خلع معطفـه وراح يضربهم به حتى قضى عليهم ، ثم سقطت بالقرب منه شرارة أخرى تعرف فيها على وجه أمه والنار تشتعل في رأسها ، حاول نجدتها غير أن اللهب كان أسرع منه في اختطافها . انهمرت دموعه ، وعادوته الرغبة في التبول . أراد النهوض ، غير أنه لم يستطع التماسك ، فعاد للقعود وقهره سلسال البول ، واعتراه قدر من الراحة سرعان ما قطعته نوبة سعال حادة أعقبها طرش دم . أغمض عينيه برهة ثم فتحهما موجها نظره إلى بقايا "اللسان" التي تخبو، وتملكته رغبة قاهرة في أن يقبلها . زحف نحوها قليلا ، غير أنه سرعان ما توقف عندما تناهت إليه صيحة عارمة صادرة من الرماد الذي أخذ يتصاعد بشكل حلزوني مشكلا عمودا مضيئا ، وتلا ذلك صيحة أخرى تفتت على إثرها العمود النوراني إلى عدد لامتناه من الحروف العربية المضيئة سدت الفراغ الذي تحت الجسر ، ثم انطلقت نحو السماء . وشعشعت ابتسامة في الوجه المكدود ، وشهق العربي شهقة ما زفرها .
( ت )
في مساء ذلك اليوم أشارت الإذاعة والتلفزة المحلية إلى الحادث ، وفي اليوم التالي ذكر الخبر في الصفحات الداخلية لبعض الصحف ، وكانت عناوينه على النحو التالي :
- «متسول عربي يلقى حتفه بردا تحت جسر سيغوبيا العلوي»
- «موجة البرد القارص تقضى على حياة متشرد عربي تحت جسر المنتحرين»
- «لاجئ عربي الضحية الأخيرة لجسر سيغوبيا العلوي»
- «العربي أيضا ضحية !»
××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

"العربي" رهينا / ج الأخير

07-حزيران-2010

"العربي" رهينا ج2

01-حزيران-2010

رواية / "العربي" رهينا ـ ج1

28-أيار-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow