Alef Logo
ابداعات
              

"العربي" رهينا ج2

فخري الوصيف

2010-06-01

خاص ألف
( ي )
كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء حينما أخذ العربي الغندور يصعد في شارع "اِسبارتيروس" . وصل إلى ساحة "سانتا كروث" شبه الخالية حينئذ ، وانحرف يمينا إلى شارع "خيرونا" ثم إلى "بلاثا مايور" . دائما يحلو له عندما يمر بهذه الساحة أن يقف في منتصفها بجوار تمثال فيليب الثالث يتأمل أركانها الأربعة ، يستشعر عبق العتاقة ووشيش التاريخ الآسر.
ذات مساء فاجأته جـَنـَّات حينما كانت واقفة معه بجانب التمثال قائلة :
- تعرف أنك تشبه الألف !
وفي الحال وضعت يدها اليمنى تحت ذقنه ويدها الأخرى على رأسه وحركتها إلى الجانب الأيمن ، وقالت ضاحكة :
- بالضبط ، ألف همزة .
ورد بابتسامة :
- كان هذا صحيحا تماما قبل أن تتكور بطني .
واستأنف قائلا :
- أتعرفين أن حرف الألف هو أنبل الحروف ؟ قيل إن الحروف عرضت على خالقها نائمة كما خلقت ، فوجد في الألف انحناءة كاملة من رأسه ، وقارا واحتراما ، فأمر بأن يرفع مقامه وأن يضعوا على رأسه الهمزة ، تاج الرئاسة !
- وسلبوك التاج !
- سأستعيده بالتأكيد ، فلا بد أن تعود الهمزة إلى ألفها .
وشعر بلسعة البرد ، فانتبه لنفسه في الساحة شبه الخالية ، وغعغم قائلا لنفسه : كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة هذه الساحة العظيمة بـ "بلاثا إسبانيا" فإنه لا يجوز كذلك المقارنة بين طبعتي "لسان العرب" القديمة والحديثة .
- ها قد عدت للتخليط ، ولكن مبكرا بعض الشيء . ما علاقة الساحات العامة بمعاجم اللغة ؟!
ولم يمهله المطر الذي عاد للسقوط الفرصة للتعليق ، وحث خطاه للاحتماء في الرواق الجنوبي ، وهبط السلم الحجري إلى شارع "طوليدو" متخذا جانب الطوار الأيمن ثم انعطف يمينا في شارع "لاطونيروس"، وهو بمثابة ممر صغير مقصور على المشاة يقود إلى ساحة "بويرتا ثيرادا" . وبعد عدة خطوات على اليمين من الممر أصبح في حانة "اِل مدرونيو" .
( ك )
عرف الحانة منذ نحو سنتين عندما قاده إليها تسكعه مع جـَنـَّات في شوارع مدريد القديمة . وأصبح يتردد عليها أكثر بعد أن سكن قريبا منها ، وأعتاد أن يتناول فيها الوجبات الخفيقة خاصة الأسماك وبعض أنواع من الجبن القديم وشطائر البطاطس بالبيض .
اختار طاولة قريبة من النافذة التي تطل على الممر والساحة ، ووضع الكيسين على الكرسي المجاور له . إنه يرتاح كثيرا لجو الحانة الهادئ الحزين . الإضاءة خافتة ، وطاولة المشرب والطاولات والكراسي من خشب الصنوبر المطلي باللون البني بدرجاته من الفاتح إلى الغامق . ويتدلى سقف واطئ أيضا من الخشب المجزّع الخمري . وجاءه النادل وطلب وجبة من السردين المقلي وكأسا كبيرة من البيرة .
وقع نظره على ساعة الحانة المثبتة على الجدار الذي على يمينه ، كانت تشير إلى الثامنة والنصف . البارحة في نفس الساعة واعدته صديقته ماري لوث في بار "بومبيّا" بشارع "بيادوليد" ، وجاء سعيدا لرؤيتها والتمتع بالحديث معها . وفي انتظارها تناول كأسا ، وتلاها بكأس أخرى ، ومَرَّ الوقت ، ولما أزمع على الإنصراف يائسا من إتمام اللقاء اقتربت منه فتاة سمراء ممتلئة قليلا . انتبه على صوتها يحيه . وتابعت بقدر من الألفـة : أظنـك لا تتذكرني . حملق في وجهها المبتسم ، وضيق عينيه وعقد حاجبيه محاولا التذكر ، ثم صاح ظافرا :
- نعم أظن أننا التقينا في مكتب اللجوء منذ ثلاثة أعوام أو أكثر . مرحبا .
- مرحبا . بالفعل كنا ننتظر مع آخرين لإجراء المقابلة .
تجاهل أن يقدم لها نفسه ، وسألها سريعا :
- وطبعا منحوك اللجوء ؟
- لا ، رأوا أن الاضطهاد السياسي ضد الأكراد ليس مبررا كافيا لمنحي وضعية اللجوء .
وانتبه إلى أن الحديث سيقوده حتما إلى منطقة خطرة ، فأراد أن يغير من مساره ، فباغتها بقوله :
- تبدين الآن أصغر بكثير من ذلك اليوم الذي رأيتك فيه !
فوجئت بهذا التودد المكشوف الذي لا تسمح به معرفتهما السطحية ، وتبينت ملقه الظاهر "لم أكن وقتها صبية ، وإنما في الثلاثين ، ولم تكد تمضي ثلاثة أعوام بعدها حتى أصبحت كما أبدو الآن ، كأنني في الأربعين" ، وغاظها تقربه الفج ، فقالت في شيء من الحدة :
- وواضح استقرارك المادي من السمنة البادية عليك !
تلقى الوخزة بهدوء ، ورسم ابتسامة باهتة على وجهه المكتنز الذي ضاق بشكل ملحوظ على ذراعي نظارته . وآثر الصمت . وطلب كأسا أخرى ، وسألها إن كانت تريد أن تتناول شيئا ما ، فامتنعت مشيرة إلى المشروب المرطب الذي كان في يدها . واستثارها أكثر صمته وعدم رغبته في الحديث ، فاستأنفت قائلة :
- يقولون أن الحكومات الغربية ، ومنها إسبانيا ، لم تعد تهتم كثيرا بالاضطهاد السياسي كمبرر لطلب اللجوء ، ولكن ترجـِّح أكثر الملاحقة لسبب ديني أو أخلاقي .
جاءت الضربة على الجرح غير الملتئم فأحس بلسعات حارقة وراحت تختفى ابتسامته البلهاء شيئا فشيئا ، وهاجت ذكريات كانت هاجعة . أكثر من مرة تقدم بطلب اللجوء استنادا على معاناة سنوات الحبس التي عاشها متنقلا من سجن إلى آخر، وبعد طول تردد استجاب لنصيحة صديقته ماري لوث وغيّر سبب طلب اللجوء إلى سبب أخلاقي ، ودبرت له الأوراق التي تثبت مثليته . واستند محاميه على أن الوضعية الثقافية والعادات والأعراف منعت موكله العربي الغندور من الإفصاح عن أن ميوله الجنسية في المقام الأول ، فضلا عن آرائه السياسية المعارضة ، كانت السبب في الاضطهادات التي تعرّض لها ، فكيف يتفق النظام العربي بكل أطيافه على اضطهاد كاتب ما إلا إذا كان ذلك بسبب ميوله الجنسية المرفوضة في المجتمع ؟ وهذا السبب على الخصوص يعرض حياته للخطر الشديد في أي مكان بوطنه إذا عاد للعيش فيه . وقدّرت السلطات السبب ومنحته وضعية اللجوء . ولما أخطر بالرد إيجابيا اجتاحته وخزات ألم صاعقة كأنها شكات متوالية لنصل سام ، ورويدا رويدا أخذت كؤوس المدام بكل ألوانها تصنع غمامة كثيفة حجبت الألم الأخير والآلام السابقة ، ولكنها أيضا فتتت النصل وراح الفتيت المسموم ينتشر في باطنه .
الذكريات الموجعة سلبت نور عينيه وأبقت له حدقتين زجاجيتن لا ترى شيئا ، وأصابته رعشة خفيفة استبانت في شفته السفلى وفي يده اليمنى ، فترك الكأس ونكس رأسه وذهل عما حوله ، وأفاقته هزة أو هزتين على كتفه الأيمن ووجد ماري لوث واقفة بجانبه تتأمله في حنان ، وتبادلا قبلتين خفيفتين ، وقبل أن يدعوها للجلوس ألقى نظرة على الطاولة فلم يجد محادثته الكردية ، ثم أتبعها بأخرى خاطفة شاملة على طاولة المشرب ، فأيقن أنها قد غادرت .
( ل )
تنبّه على لسعة حارقة في جانبي إصبعيه السبابة والوسطى من عقب لفافة التبغ المشتعلة ، فألقى العقب سريعا في المنفضة ، وراح ينفض عن ملابسه الرماد المتناثر عليها ، وخلال ذلك لحظ بقعة دم متخثر مختلطة باصفرار باهت ، وتساءل عن مصدرها . شرد قليلا ثم قال مرجحا : الظاهر أنها من مخلفات البارحة . وارتسم في ذهنه ما وقع بالأمس .
لما خرجتُ من بار "بومبيّا" شعرت أنني بحاجة إلى مزيد من الشراب ، فاشتريت قنينة كونياك وذهبت للجلوس على ضفة نهر "المانثانارث" . العمل الذي قدمته إلي ماري لوث مربح وسهل : مرافقة أحد شيوخ المال العرب في رحلة سياحية بإسبانيا . وتساءلت بينما كنت أخرج القنينة كيف اختفت المرأة الكردية هكذا فجأة ؟
- أظن أنها لم تختف ، بل أنت الذي غبت عنها فانصرفت – أجابته صاحبته .
- حالات الغياب اللحظي أصبحت تعاودني كثيرا .
- نسيت أنك في حالة غياب دائم ؟
- غيابي سببه أنني مهموم . أنا مهموم ، إذن أنا موجود ! – ردّ ساخرا .
- وجودك في تآكل مستمر منذ زمن .
- أظن أنك تعنين منذ أن منحوني اللجوء .
- لا لا ، قبل ذلك .
- آه نعم ، لما طردت من الجريدة وكدت أفنى جوعا .
- عدت للمبالغات . لم تجع ولم تمت ، وعدت في أقل من ستة أشهر رئيسا للتحرير بعد أن كتبت "احكم ، فأنت الواحد القهار" .
- وحينما أحرقوا مكتبتي !
تناول جرعة ممتدة ونبس همسا : كان حرق المكتبة انذارا قاسيا ، وفهمته وأدركت أن حياتي الهدف التالي . كنت قد أغمضت عيناي بعضا من الوقت ، وفي عتمة الغفوة شاهدت اللهب يشتعل في مكتبتي ، وظللت أصرخ صراخا حارا ، وجاء الجيران ولم يقدروا على فعل شيء سوى تهدئتي ، ولم يلبث أن برز عبد المولى البواب . دفعنا جميعا واندفع بشجاعة إلى المكتبة رغم الدخان الكثيف المخلوط برائحة ألوان الزيت المحترقة ، ومن الداخل أخذ يرمي إلى الخارج بالكتب والأوراق التي كانت على المكتب والموجودة بالقرب منه ، وكان منها "لسان العرب" ، ثم خرج مهبـّبا مغبـّرا يقول بأسف : لم يبق شيء سوى الرماد . ورحت بمساعدة الجيران ألملم "المعجم" والكتب الأخرى القليلة الناجية وأرتب الأوراق .
- هذه هي روايتك التي اعتنتقتها وأذعتها ، والرواية الصحيحة التي أجمع عليها ساكنو مكتبتك الذين أخبرونني بها وهم ينازعون احتضارهم الملتهب هي كما يلي :
«بعد أن قضى الشطر الأول من الليل يراجع كتابه ، انتقل إلى المقعد الوثير فرحا بإنجاز الكتاب الحرام ، أخرج قنينة ويسكي من خزانة صغيرة مغلقة مثبتة في أحد رفوف المكتبة ، صب لنفسه كأسا وأشعل لفافة تبغ ، وراح يتأمل صورة الزعيم القائد في إطارها المذهب الذي يحتل مساحة معتبرة من الحائط . كان وجهه متجهما ، رجاه أن يبتسم ، فابتسم ، تضرع إليه أن يستبدل بسترته العسكرية لباسا مدنيا ، فما مانع . أعجبه التغيير وانتشي بالاستجابة ، رشف رشفة وأخذ نفسا ، ثم طلب منه أن يعتمر الغترة والعقال ، فأطاعه ، ولم يلبث أن أمره بأن يستبدل بهما تاجا ملوكيا . أثاره التاج بمجوهراته وبريقه ، ولكنه وجده غير ملائم مع وجه الزعيم اللحيم المبطط ، أخذ الكأس وراح يرتشف ويفكر، ثم أشار بلفافة التبغ وكأنها عصا سحرية إلى وجه الزعيم بالاختفاء واستحضر وجه امرأة حسناء ، وصاح ها هي ملكة جمال العرب ، وأشار باللفافة المشتعلة إلى جسم الزعيم فتلاشى وحل محله جسد الملكة العاري ، أشعل لفافة أخرى ، دغدغه الحسن واستثارته الإنحناءات الأنثوية ، ترك الكأس جانبا وأخذت يده تستجيب للنداء القاهر، وعندما استولت عليه الرعشة أغمض عينيه بعض الوقت ، فسقطت لفافة التبغ المشتعلة على الأرضية المغطاة بالأوراق ، وفي غفوة النشوة العذبة شعر بلفح اللهب ، ولكنه توهم أنه ينبعث من بين فخذيه ، فاستنام للسخونة اللذيذة ، غير أن لسعات النار ازدادت حدة ، فانتفض مذعورا وسقطت قنينة الويسكي التي كانت على الطاولـة الصغيرة على يمينه ، وأجّج الويسكي المتساكب النيران . ألجمه الخوف ، فلم يصرخ ، وحاول أن يخمد الحريق بالقاء الكتب الثقيلة على النيران ، وهذه وكأنها كانت تنتظر فرصتها راحت تلتهم ما يلقى إليها ، فصرخ وصاح ، وفتح النافذة . وجاء الجيران ولم يقدروا على عمل شيء سوى تهدئته ، ولم يلبث أن برز عبد المولى البواب . دفعهم جميعا واندفع بشجاعة إلى المكتبة رغم الدخان الكثيف المخلوط برائحة ألوان الزيت المحترقة ، ومن الداخل أخذ يرمي إلى الخارج بالكتب والأوراق التي كانت على المكتب والموجودة بالقرب منه ، وكان منها "لسـان العرب" ، ثم خرج مهبـّبا مُغـبـّرا يقول بأسف : لم يبق شيء سوى الرماد . وراح الجيران يلملمون "المعجم" والكتب الأخرى القليلة الناجية بينما انهمك صاحبنا السابق في ترتب أوراق كتابه وفي عينيه ابتسامة النجاة» .
( م )
بالرغم من إحساسه بالجوع وحبه لتناول السردين المقلي فإن ألما حادا في معدته أثناه عن الأكل وإن لم يتوقف عن احتساء البيرة . وتذكر بقعة الدم على قميصه : يبدو أن قضاء الليلة الماضية في الحبس جدّد عليَّ آلام القرحة . وتساءل عن سبب احتجازه بالأمس ، إنني لم أفعل أكثر من الغناء : يا ليل ! الصب متى غده ؟ أقيام الساعة موعده ؟ رقد السّمّار فأرقه أسف للبين يردده . فرحة ، نشوة ، وقدر من الصراخ والصياح . فلماذا حملونني إلى مخفر الشرطة ؟ فردت عليه :
- لأنها كانت عربدة مخمور أقلقت الناس الهاجعين وأثارت حفيظتهم .
- إنها كانت احتفالا بالعمل الجديد الإضافي وفرحة بعثتها زجاجة الكونياك وضوء القمر الذي كان يسبح في مياه "المانثاناريث" .
- إنك لم تكتف بالغناء بصوت منخفض ، إذ أخذ صوتك الخشن يعلو شيئا فشيئا وتتوقف بين شطرة وأخرى صارخا : أنا العربي ، السلطان الغندور، سيد الحور. وبعد أن عببت القنينة وأدركت أنها أصبحت فارغة صرخت : لا ، اليوم خمر وغدا أيضا خمر ، خمر خمر. ووقفت بصعوبة ، أدرت ظهرك للنهر وتطلعت إلى صف المنازل على الجانب الآخر ، وقلت : أذهب الآن إلى البيت فمخزون الخمر لدي لا ينفد ، وأشرت إلى شرفة بالطابق الثاني في بناية من ثلاثة طوابق أمامها حديقة صغيرة وقلت ، يظهر أنني تركت نور المكتبة مضيئا ، وبخطوات متثاقلة عبرت الشارع الضيق الذي يفصل بين صف البنايات وضفة النهر، اتجهت إلى البناية وفتحت باب حديقتها وضعت قدميك على الممشى الذي بين بلاطـاته ينمو العشب ، تقدمت خطوتين ، ثم تراجعت للخلف مرة أخرى ، رفعت قدمك اليسرى وأمسكتها باليد اليسرى ، ورحت تحجل قافزا بلاطة بلاطة وتغني بصوت عال : وطني .. حبيبي .. العربي .. الأكبر، ثم أطلقت شخرة قبيحة . أنزلت قدمك اليسرى ورفعت اليمنى وأمسكتها بيدك اليمنى وعدت للحجل والصراخ والغناء : يوم .. ورا يوم .. أمجاده .. بتكبر، وأعقبت بشخرة أخرى طويلة زاعقة ، ثم أنزلت قدمك . وفجأة تطلعت إلى الشرفة وأخذت تصرخ مذعورا : النـار النـار في المكتبة .. النجـدة ! وأسرعت إلى باب البناية ، ألفيته مغلقا ، طرقت على الباب بعنف : افتح يا عبد المولى ، افتح ، النار ماسكة في كتبي ، افتح يا عبد المولى . وأطلقت أنوار كل البناية ولكن لم يفتح الباب ، وظللت تطرق وتصرخ ، ولم تمض سوى دقائق حتى جاءت سيارة الشرطة ، وهجم عليك شرطيان ووضعاك في السيارة ثم حملوك إلى المخفر .
طلب كأسا كبيرة أخرى من البيرة ، أخذ أحد الكيسين ، وأخرج منه اللفافة . فضها ، وأخذ في يديه مجلدا ، المجلد الثاني من ح إلى د . تحسسه ببطء ، فلم يجد الملمس المألوف المختزن في ذاكرته . قلب أوراقه الرخيصة ، شعر برقة وطراوة بالغتين حتى أنها كانت تلتصق ببعضها البعض ، حاول أن يطالع فيها ، فألفى حروفها دقيقة تحتاج إلى عدسة مُكبـِّرة ، رفع الكتاب قريبا من ناظريه ، ولكن حال ضوء الحانة الخافت دون أن يستبين شيئا ، فأعاده إلى الطاولة مغتاظا . قـَلـَّب عدة صفحات مجتمعة ، وهاله أن يجد ثنية بطول الصفحـة طمست كثيرا من الحروف ، فأغلقه حانقا . أخذ جرعات متتابعة من البيرة وكأنه يعاني من ظمأ قاتل . تناول عدة محارم من ماسكة المحارم التي على الطاولة ، وضعها أمامه وأخرج قلمه وطفق يتطلع إلى التابوت الأسود الذي أمامه . خاطبه من بين أسنانه : ها أنت معي منذ قرابة خمس ساعات ولم تحرِّك فيّ الرغبة لكتابة شولة واحدة ! خيبت أملي في أن تعيدني للكتابة أو تعيد إليّ المقدرة عليها . لقط همسها الحاد :
- ليس ذنبه ، فهذا قانون طبيعي ، والعجز طال نشاطا آخر لك أيضا .
- أعرف ما ترمين إليه ، ولكنه ليس صحيحا ، فحتى الأسبوع الماضي كنت ثورا متوَّجا .
- إنها السلافة يا صاحبي !
لم يعنِ بقولها ، وعاد يخاطب ابن منظور: كثيرا ما كنت أفكر حين كنت مسجونا أنك المسؤول عما حدث لي ، وهذا الصباح راودتني نفس الفكرة حينما استيقظت على الصداع وآلام المعدة مفترشا حاشية اسفنجية على أرضية الحجز في المخفر وملتحفا بمعطفي .
- ليس منطقيا أن تلقي عليه باللائمة فيما أصابك ولا تؤثم أعمالك ، كما أنه من الخطل اعتقادك بأنه اصطفاك بوحيه ، فالأمر كله هواجس صنعتها أوهامك .
- لا ، لا أنا تأكدت الآن أنه حقـّا الجاني علي . انظري ! ها هي المحرمة الورقية على حالها بيضاء والقلم هامد .
وأخذ القلم بأنامل مرتعشة وراح يمرره على المحارم الورقية فما تحصل على جملة مفيدة ، فجمع المحارم في يده مغتاظا ومزقها ثم كورها في يدها وألقاها تحت الطاولة . وعاد يخاطب صاحب "اللسان" حانقا : أجل لقد أوقعتنى في أسرك منذ باكر شبابي ، كان وحيك الدائم غواية مستمرة أقطف ثمارها بنهم ، سعيدا بها ، حريصا عليها ، مكافحا من أجل دوامها ، وأنت بكرم شيطاني كنت تمد لي حبلك الذهبي فألفه بنفسي على جسدى وروحي حتى أصبحت أسيرا لها ، أو بالأحرى رهينا لك . أيها الشيطان ! خدعتني العمر كله ، إنك تستحق السحق والتنكيل حتى الموت .
ألقى نظرة على الزبائن المتناثرين في الحانة ، كل مشغول بحاله ولا أحد يهتم به أو بالتابوت الأسود الذي يحادثه . دمدم : لو تركته في مكانه ومضيت لما شعر أحد ، غير أنه انتبه إلى أن عيون البارمان ترصد الزبائن من بعيد ، وقد يظن به الظنون . وتألقت فكرة في ذهنه المكدود . التخلص من تابوت واحد أسهل من التوابيت الست دفعة واحدة ، والمرحاض خير مكان ليواري فيه الجثة . أعاد فتح المجلد بينما كان يرقم البارمان وحينما وجده منشغلا التقط تابوتا آخر بيده اليسرى وأنزله إلى جانبه ثم رفعه بين إبطيه وأسدل عليه المعطف ، ثم نهض وكأنه ماض لقضاء حاجته . وفي دورة المياه اتجه إلى المرحاض وهم برفع غطائه ليرمي فيه التابوت الأسود غير أنه تراجع حينما أدرك استحالة ذلك ، وتملكه غيظ عارم ، ففتح المجلد وراح ينزع ما سمحت له قوته من صفحات ويمزقها ، ثم ألقى بها وببقية أشلائه في صندوق القمامة ووضع فوقها شيئا من المناشف الورقية ، ثم عاد بقدر من السرعة لا يتفق مع حالة الثمل إلى طاولته . أغلق المجلد الآخر القابع أمامه على الطاولة بانفعال واضح ، ثم فتحه من جديد نازعا عددا من أوراقه بعصبية ، ثم أعاد إغلاقه ووضعه مع نظيره في الكيس . دفع الحساب وخرج من الحانة لا يبالي بنظرة البارمان .
( ن )
أنعشه الهواء الطازج وخفف قليلا من ثمله ، عبر تقاطع شارع "لوس كوتشييروس" مع ساحة "بويرتا ثيرّادا" ولزم الطوار الأيمن باتجـاه شارع "سيغوبيا" . شعر بأن حمله قد خفّ قليلا ، وعادت صاحبته تقرعه :
- قل لي ، ما فائدة ما عملته ؟ لماذا تود التخلص من ابن منظور بهذه الطريقة الطفولية والمهينة ؟
لم يردّ ، فواصلت :
- أقول لك السبب . إنه الغيظ والانتقام الرخيص . يا لك من بائس جحود !
تصامّ عما تقوله وألقى بالأوراق المنزوعة في سلة المهملات المعلقة على يسار الطوار، ثم نزع أوراقا أخرى ووضعها في يده استعدادا ليقذف بها في السلة القادمة . وكأن مسا من الحمى ألم بجسده ، فأخذ ينتفض ويتصبب عرقا رغم البرد القارص ، ثم لم يلبث أن طق في رأسه ورم الجنون الكامن ، فراح يهذي ويسب ويلعن بصوت مسموع بينما كان يهرول بين سلال المهملات ملقيا فيها أطنانا من الحروف . وبعد أن فرغ من إلقاء قدر من أوراق "اللسان" في إحدى السلال أحس بحفيف شيء لامس قدميه ، ففزع وتراجع خطوتين إلى الخلف ، فإذا به يبصر متشردا أشعث متدثرا بمعطف أخضر باهت ممزق ، كان جالسا القرفصاء على الأرض منهمكا في جمع أعقاب السكائر الملقاة بينما كان يدخن باستمتاع بالغ .
استعاد العربي جأشه وأخرج من علبته لفافة تبغ وقدمها إلى الرجل ، فأخذها منه سريعا في صمت وقسمها إلى نصفين وألقاهما أرضا ، ثم عاد لالتقاطهما مبتسما ، فخاطبه العربي باللغة العربية :
- ليس هكذا يا أهبل !
فحدجه الرجل ببلاهة بينما كان يعتدل واقفا ، ورد عليه بالعربية أيضا :
- شكرا يا أخ على كرمك !
فبهت العربي ولم ينبس ، وولاه ظهره واستمر في طريقه . وبعد خطوات استدار فلمحه يمد يده في السلة ويخرج بعض أوراق "اللسان" الممزقة ثم يرفعها إلى أعلى باتجاه الضوء مقلبا فيها نظره ، ثم لم يلبث أن رماها على الأرض وداسها بقدميه ، وحينما تنبه إلى أن العربي يتطلع إليه ، عمل له إشارة قبيحة بيده ثم تابع طريقه .
وشعر العربي بغصة وفرّت منه دمعة لم تسل ، ولكنه سرعان ما ذابت مشاعره هذه في فورة غضبه العارم ، وعاد إلى مهمته الجنونية .
وفي هرولته الحثيثة انتبه إلى ظل رجل يسير أمامه بتؤدة . كان زنجيا مديد القامة نحيفها ، يعتمر بيريها أحمر كبيرا ويترنح لعله من السكر أو من ثقل الحقيبة السوداء الكبيرة التي كان يحملها . وحاول أن يتجاوزه ، ولكن حركة سيره المتعرجة عرقلته وكاد أن يصطدم به ، ثم تخطاه أخيرا ، ووقف بجوار سلة مهملات أخرى وألقى فيها بقية أشلاء المجلد ثم بالكيس البلاستيك الأسود ووضع المجلد الوحيد الذي كان فيه تحت إبطه . واستدار ينظر إلى عود الأبنوس المتمايل خلفه ، فوجده يسدد إليه نظرة طويلة متفحصة اخترقت النظارة السوداء التي كان يضعها على عينيه .
وصل إلى ساحة "لا كروث بيردي" الصغيرة التي علي يمينها يبدأ شارع "اِل رويّو" الذي يسكن به في عُليّة متواضعة في بناية من أربعة طوابق . صعد الدرجات الحجرية الموصلة للشارع ، غير أنه بدلا من يواصل الطريق إلى مسكنه آثر الذهاب إلى مقهى "موناغيّو" الذي يتوسط الجانب الأيمن من الساحة .
( س )
العربي يعتبر نفسه من زبائن المقهى ، فأحيانا ما يتناول فطوره فيه ، وأحيانا أخرى ما يأتيه في آخر الليل ليتناول الكأس الأخيرة ، وكذلك شهد المقهى لقاءات عديدة له مع المحامي وماري لوث . وهذه هي التي قادته إلى المقهى أول مرة . كان ذلك عندما صحبته لتريه مسكنه الجديد بشارع "اِل رويّو" الذي توسطت في كرائه له من قريبة لها وضمنته عندها . كان المقهي شبه خال ، هادئ ، كما هو معهود في ليالي الشتاء أول ووسط أيام الأسبوع . اختار طاولة تطل على الساحة ، ووضع المجلد الأسود أمامه والكيس على الكرسي الذي بجواره . وبعد قليل أحضرت له النادلة كأسا من الويسكي بينما كان ذاهلا وعيناه مركزة على طاولة في ركن منزو حيث وقع آخر لقاء له مع جـَنَّات .
قالت له بهدوء ولكن بشكل قاطع :
- اسمع يا عربي ، لن نتقابل بعد اليوم .
فرد عليها دون أن يفهم مرامها :
- عندك مزيد من العمل في الأيام القادمة أم ستسافرين ؟
- لا هذا ولا ذاك . لقد تركت العمل في الشارع منذ أسبوع ، ولن أعود إليه ، وسأسكن خارج مدريد .
- كيف أفهم هذه الفزورة ؟
- حصلت على منحة تدريب لمدة عام ، وسأعيش مع زميل لي في بيته .
- زدت الفزورة تعقيدا – قال مدهوشا .
- كنت أعرف أنك لن تعي شيئا لأنك لم تفهم أبدا علاقتنا – قالت بحدة .
وبدأت الجمل تلتحم في ذهنه لتشكل الحقيقة المؤلمة التي لم يتخيلها ، فقال :
- تقصدين أن في حياتك رجلا آخر، وستعيشين معه وستكونين له لوحده ؟
- أجل .
أن تنهي امرأة علاقتها معه أمر محتمل ، وإن لم يحدث ذلك معه أبدا ، ولكن أن تكون جـَنـّات المومس هي هذه المرأة لهي مفاجأة لم تخطر على باله قط . في تلك اللحظة شاهد غروره يتهاوى متحطما ، واجتاح الهشيم نفسه من كل جهة ، وانسدّ عقله ، فلم يعد يفكر في شيء آخر. وتوارت الأسئلة المحتملة عن الآخر المنافس وكيف ومتى . وأراد أن ينحو بالحديث منحى آخر كاتما مشاعره ، فقال :
- وسيوفر لك العمل الجديد مطالب الحياة بشكل جيد ؟
- المرتب الذي سأتقاضاه من الجريدة معقول ، و...
فخاطبها مقاطعا :
- تقولين جريدة ؟ ستعملين في جريدة ؟
- أجل ، سأعمل صحفية . لقد حصلت على الإجازة في الصحافة منذ شهرين .
- لم أكن أعرف أنك كنت تدرسين .
- حديثك المتواصل عن نفسك لم يترك لي الفرصة لأقول لك شيئا يخصني .
- ولم أتخيل أبدا أنك اخترت دراسة الصحافة تحديدا . فعلا الحياة مملؤة بالمفاجآت .
- ليس الأمر كذلك ، فبينما ذاتك تشغل كل حياتك ، ولا تترك فيها ثغرة لأحد ، يفكر الآخرون المحيطون بك ويتحركون ، وحينما تقتحم أفكارهم وحركاتهم حياتك تظنها مفاجآت .
وغاص في أعماقه متأملا ، وسكت طويلا واجتهد في أن يرسم على وجهه لامبالاة ، ثم قال لها ساخرا متصنعا الابتسام :
- نحن منافسان إذن .
- بالطبع لا ، فأنت خارج المنافسة !
زاد من ابتسامته ، وأخذ يقهقه قهقهة فارغة ، ثم خاطبها قائلا :
- أي معنى تقصدين ؟ أنني خارج المنافسة بحكم السن والخبرة والشهرة أم أنني تجاوزت "مدة الصلاحية " ؟
- اختر المعنى الذي تراه يناسبك .
وأعطته قبلة سريعة على وجنته وتركته وهو لا يزال سادرا في قهقهته الجوفاء .
وامتدت يده إلى كأس الويسكي ورشف رشفة ثم أعادها إلى الطاولة مع زفرة حارة . ورغم الإضاءة القوية لم يحاول أن يقرأ حرفا من "اللسان" الأسود الراقد أمامه . وبعد قليل شعر بأن الضوء الذي تعكسـه عيناه يأتي مختلطا بلون أزرق خفيف . فراح جاهدا يتخلص من أسر اللون الأسود ويتتبع الوافد الرقيق . رفع بصره إلى أعلى ظنا منه أن السماء اخترقت حجب الحجارة والأسمنت ، غير أنه ما استبان شيئا غريبا ، وامتدت يده إلى الكأس فاصطدمت عيناه بلون الطاولة الأزرق ، عبّ الكأس في دفعة واحدة ، وهمس : إنه يأتي من سطح الطاولة . وراح يغوص في اللون السماوي ويتتبع الخطوط المتموجة متنقلا من خط إلى آخر ومن نقطة إلى أخرى . إنها لا شك لوحة "تكوين" للفنان فائق حسين ، انتقلت من مكانها في صالة اجتماعات "المنظمة" لتحتل سطح الطاولة التي أمامي . هنا هاء رشيقة ينطلق من وسطها خط طويل ملتو ينتهي برأس ثعبـان ، وهنالك هاء آخرى كأنها أنشوطة مشنقة ، وتتناثر في الخلفية الزرقاء عشرات من الهمزات المفردة المبعثرة وبجانبها ألفات كثيرة راقدة ، منها واحدة قاتمة محمولة على أربع ألفات رأسية كأنهن يحملن نعشا ، وفي أسفل الركن الأيمن عين مفتوحة ، واحتلت أخرى مغلقة ذات لون أزرق قاتم كأنها مثلث أزرق أعلى الركن الأيسر ، وكانت تهيمن على أعلى الركن الأيمن لام غليظة بينما وجدت أخرى مقلوبة باهتة في أسفل الزاوية اليسرى .
××××××××××





نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

"العربي" رهينا / ج الأخير

07-حزيران-2010

"العربي" رهينا ج2

01-حزيران-2010

رواية / "العربي" رهينا ـ ج1

28-أيار-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow