كلُّ كارثةٍ لا تؤنَث، لا يُعوَّل عليها
2010-06-22
غُصّةٌ تشرخُ الحلقَ كلما سمعنا عن كارثة تضربُ أية بقعة من بقاع الأرض، فتجرحُ طفلاً أو تخنقُ طائرًا، أو تكسرُ زهرةً نحيلةً على عودها. ثم نقولُ للطبيعة في شراستها شؤون! قبل خمس سنوات، سبتمبر 2005، ضرب إعصارٌ ضخمٌ اسمه "ريتا" سواحل خليج تكساس ولويزيانا بأمريكا، فحطّم ما حطّم، وشرّد مَن شرّد، وقتل مَن وما قتل. وقبل أيام ضرب إعصارُ "فيت" الشقيقةَ سلطنة عُمان. وأحاول الآن أن أرصدَ التباينَ في شعوري لحظة استقبال الخبرين. ثمة حزنٌ اعتمرني، واعتمر العربَ جميعًا، وشيء يشبه الغضب من تلك ال"فيت"! ثمة وجلٌ وقلق على أصدقائنا هناك، مَن التقيتُ بهم، ومن لم ألتقِ إلا عبر كتاباتهم. ثمة خوفٌ على بلد أحبّه ولم أزره، رغم تجوالي في كثير من طرقات أرض الله الواسعة، العربية والغربية. فماذا عن "ريتا"؟ أعرفُ أنني كتبتُ يومها قصيدة عنوانها "ريتا" صدرت في ديواني الخامس "هيكل الزهر". صوّرت فيها أمريكا كطفلة شقيّة تلعب الهولاهوب، وقد علّقت في ساقها حبلا في نهايته كرةٌ خضراء، الكرة الأرضية. تقفز الطفلةُ ريتا وتدور في الهواء، فتدور معها الكرةُ، ويتبدل العالم. العالمُ بأسره رهنُ تلك الطفلة المشاغبة الحرون. ريتا الأمريكية ليست هي ريتا محمود درويش التي بينها وبين عيونه بندقية. أذكر قصيدتي، لكنني، الآن، لا أقدر أن أضع يدي بدقة على شعوري الحقيقي آنذاك فيما أتابع على الشاشة ما يجري هناك في تكساس. شعورٌ مشوش ليس يشبه حزنيَ الصافي من "فيت". هل ضبطتُ نفسي، وقتها، وقد خامرني بعضُ الفرح، الخبيث، حينما ضرب الإعصارُ بلدًا مستوحشًا أسقط بمخالبه مدينةً عزّ نظيرها اسمها بغداد؟ هل تحدثتُ مع أصدقائي حول انتقام السماء وأشياء من تلك التي نجيد، نحن العرب، مواساةَ أنفسنا بها، حين نشعرُ بالعجز عن الفعل؟ ثم هل، بعد برهة، تأملنا الحال قليلا وراجعنا أنفسنا، ونحن في جلستنا الأدبية والفكرية، ثم عاتبنا النفسَ الأمّارة بالسوء لأنها أتت ما ننتقده ليل نهار في مقالاتنا مما يأتيه العامةُ والبسطاء؛ حين يؤولون كلَّ حادث وفق ما يهوون. فإن أصابَ مكروهٌ عزيزًا لدينا، قلنا: "المؤمنُ مُصاب." وإن نجا من مكروه، قلنا: النارُ لا تمسُّ مؤمنًا"، وإن تأذى مَن لا نحبُّ، قلنا: إنما هو عقابُ الله، فإن نجا ذلك الذي نبغضُ من الأذى، قلنا: "إنما يمهلُ ولا يهمل."!!!
يحدثُ كلُّ هذا، ونقولُ كلَّ ما نقول، ونبحثُ عن تفاسيرَ وتأويلاتٍ صعبة معقّدة تدخل في ظلمات الغيب والتخمين والحدس، غافلين عن التفسير الواضح الأوليّ البسيط: إنها، وحسب، ألاعيبُ الطبيعة مع بني البشر. الطبيعةُ الفاتنةُ الشرسة، تلك التي لم يستطع الإنسانُ، ولن يستطيع، أبدًا، ترويضَها. ليظلَّ يبحث ويدرس ويتابع ويحلل ويكتشف وينظّر ويخترع. يظلُّ الإنسانُ أضعفَ من الطبيعة، لتظلّ اللعبةُ دائرةً، لعبة القط والفأر. لعبة الوجود والعدم. أن تكون أو لا تكون. ويظلُّ الإنسانُ في حال تفكير دائم وترقّب. وإلا فالموات. قرأتُ وأنا طفلة أن الذباب في العالم يكفي لأن يغطي سطح الكرة الأرضية كاملة لمسافة كيلومتر رأسيًّا!! وكنتُ أتعجب! ألم يستطع الإنسانُ، وقد وصل في اكتشافاته إلى ما وصل إليه، وغزا القمر والفضاء واخترع القنبلة النووية والهيدروجينية والبيولوجية، الخ، ألم يستطع بعدُ أن يقضي على تلك الحشرة الضئيلة التافهة؟! وبعيدًا عن قانون الاتزان الطبيعيّ الذي يجعلنا نحافظ على كائنات نبغضها، خوفًا من فناء كائنات نحبها، فإنني أظن أننا بالفعل غير قادرين على التخلص من الذباب والبعوض والصراصير. تظلُّ تلك المنغصات النحيلةُ تقضُّ مضاجعنا، وتظل فوهات البراكين تنذر بلهيبها، والقشرةُ الأرضية تتوعد بالانزياح والتصدّع والزلزلة، وموج البحار لن يكف عن التواطؤ مع الرياح والقمر بمدّه وجذره ليتآمر ثلاثتهم على موعد إطلاق الأعاصير والسيكلون ليشاكس الإنسانَ الطيب والشرير على السواء. ويظلُّ الإنسان يسمي أعظم كوارثه بأسماء مؤنثة جميلة: كاترينا، ريتا، جونو، كلكتا، فيتا، ليس لأن الكوارث تُسمى بأماكنها، والأمكنةُ مؤنثة وإلا ما عُوّل عليها، كما قال ابن عربي، بل أظن أن الإنسان يرى أن كلَّ كارثة لا تُؤنَث لا يعوّل عليها. ذاك أن بين المرأة والطبيعة متشابهاتٍ وخيوطًا وعلائقَ لا حصر لها. كلتاهما فاتنةٌ، وشرسةٌ، ولا تُروَّض. وكلتاهما كريمةٌ معطاءةٌ ومانحةُ حبٍّ وحياة.
جريدة الرؤية عمان
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |