البنت المصرية سعاد حسني
2010-06-28
"إنتَ الليلة دمّك ماسِخ، والنبي منا مكلماك! أبو العِلا، إنتَ يا أبو العِلا! يووه!" عساها واحدة من أجمل عبارات الغزل والتدلل الأنثوي، والتغاضب المشحون بالحب، مما قالته امرأةٌ لرجل في السينما العربية، بل وربما في الوجود كله. كانت "فاطمة"، الزوجة الحسناء الطيبة، ترقد فوق مصطبة الفرن بالدار الريفي البسيط. تلك المصطبة التي تحولت سريرا للاستفادة من دفء الفرن. بينما الزوج "أبو العلا"، وقد غمره الحزن واليأس والشعور بقلة الحيلة أمام جبروته العمدة المستبد، يجلس على الأرض جوار الفرن وقد وضع يديه فوق رأسه. تميل الزوجة فوقه وتداعب وجهَه بجديلتها علّه يلتفت إليها، بينما هو غارق في ذهوله. وحين تيأس فاطمة، تشيح عنه وتقول تلك العبارة التي نصفُها غضبٌ ونصفُها تدلل، وكلها عشق. تلك سعاد حسني، في فيلم "الزوجة الثانية" لصلاح أبو سيف، أحد أهم وأرقى الأفلام، برأيي، في العالم. هي أوفيليا الدنمركية حبيبة هاملت، وهي نعيمة المصرية الصعيدية شقيقة متولي؛ كما اختار لها أن تكون عبد الرحمن الخميسي، في بداية ظهورها كفنانة تجيد التلوّن عبر الشخصيات والملامح واللسان والتركيب النفسيّ. هي مرّةً البنتُ الشقية المتمردة على الأعراف البطيركية المتحجرة، ومرّةً أخرى هي الطالبة الجامعية الجادة المناضلة سياسيًّا، هي اللصة السجينة، وهي الموظفة ابنة الطبقة البرجوازية الوسطى، هي الزوجة الجميلة، وهي العاشقة التي تقع في الهوى الحرام، هي التوأم الرصين العميقة، وهي التوأم المرحة الطائشة، وهي دائمًا البنتُ المصرية الساحرة التي حصدت قلوبَ البنات والشباب في كل الأجيال، وعلى مستوياتهم الثقافية والاجتماعية والبيئية كافة. سعاد حسني في عالم السينما، هي فيروز اللبنانية في عالم الطرب، كلتاهما ظاهرةٌ فريدة لا تشبه إلا نفسها من حيث الكاريزما الطاغية العابرة للزمن والجغرافيا، ومن حيث الحضور المدهش لامرأة عصيّة التكرار، اتفقت على الافتتان بها شرائحُ بشريةٌ متباينةٌ، بل ومتناقضة، من العسير أن تتفق على شيء.
لو كان ثمة ما يُسمى جائزة "أوسكار لأحسن مشهد سينمائيّ"، ولو كانت تلك الجائزة بيدي، لمنحتُها بامتياز لسعاد حسني في أحد المشاهد المتأخرة من فيلم "أميرة حبي أنا"، إحدى قصص مجموعة "المرايا"، لنجيب محفوظ. الشاب الطموح مجدي الذي تزوج ابنة رئيسه في العمل، الشرسة الحرون، طمعًا في منصب. وبعد برهة يتعرف على أميرة، إحدى مرؤوساته من الطبقة المتوسطة، فتسلب عقلَه بحُريّتها وحيويتها وانطلاقها وذكائها. الفتاة التي تجيد ثقافة الإقبال على الحياة، عكس زوجته الخاوية التي لا تتقن سوى ثقافة الشكلانية والغطرسة والصراخ. يتزوج أميرة سرًّا، وحين ينكشف أمرهما يهدده رئيسُه في العمل بأن عليه أن يطلّقها أو يخسر كل شيء. ويقف الزوج عاجزًا عن الكلام. فتغضب أميرة لكرامتها وتذهب إلى بيتها كسيرة النفس، وقد صدمها ضعفُ زوجها ورخاوته أمام رئيسه. وهنا يبدأ المشهد المعجزة. تدخلُ مشحونةً بالغضب والتوتر والانكسار. تركّز الكاميرا العدسةَ على وجهها؛ فنراها تغتصبُ ابتسامةً تمنحها لأمها. ثم تظل تطوف في أرجاء البيت من غرفة إلى غرفة على غير هدى، ربما كمحاولة لتفريغ شحنتها الثائرة. ترى شقيقتَها الطفلةَ جالسة على طرف السرير تمسك مشطًا تحاول تمشيط شعرها. تأخذ أميرة المشطَ من الصغيرة، وتدير ظهرها لها، وتبدأ في تمشيطها بهدوء لا يخلو من توتر، بينما عيناها زائغتان حائرتان تغالبان الدمعَ فتقمعه ولا تسمح له بالنزول. تُنهي تضفيرَ شعر الصغيرة في جديلتين طويلتين تعقصهما بشريطين ملونين، ثم تصرفُها لتختلي بنفسها. وفجأة تنفجر في بكاء محموم. ذلك المشهدُ القصير بالمقياس البصري، الطويلُ كالدهر بالمقياس الوجودي، منذ دخولها من باب الشقة، وحتى استسلامها للبكاء وحيدةً في غرفتها، يشي بقدرة تمثيلية فائقة. التصاعدُ النفسيّ التدريجيّ في اعتمال الغضب الداخلي ونموه البطيء درجةً فدرجة، من الهدوء الجامد نحو التوتر المنفجر، يشبه جبلَ الجليد الذي لا يبين منه سوى رأسه الدقيق، فيما في عمق المحيط يكمنُ الجسدُ الهائل بكل طغيانه. ذلك التصاعد التدريجي، يُسمى بلغة المسرح والموسيقى: كريشيندو، أي التصاعد النغميّ من درجة الهمس الخافت وصولا إلى الذروة العليا عند النبرة الصوتية القصوى، سوى إنه هنا، في هذا المشهد، كريشندو صامتٌ لا صوت فيه. تتصاعد فيه الانفعالات الداخلية فتظهر على ملامح الوجه تدريجيًّا حتى تصل إلى ذروة الشعور، فتنفجر في البكاء. مشهدٌ أراه لونًا من الإعجاز التمثيلي، لا أدري إن كان بعض الفضل فيه يعود إلى المخرج حسن إمام، أم أنه بكامله يُحسَب لفنانة شديدة الحساسية مثل سعاد حسني. سوى إنه في الأخير مشهدٌ لا تأتيه إلا نفسٌ مرهفة وروح ذكية، على دراية واعية بآلية عمل النفس البشرية التي لا تدرك هولَ الكارثة إلا بعد برهة من حدوثها؛ تمامًا مثلما تجرحنا سكينٌ فنشعر بوخز الألم بعد دقائق، وليس فورًا. لا شكّ في أن رصيد سعاد حسني من المشاهد الصعبة والأدوار المعقدة كثيرٌ، لا يمكن حصره في مقال أو دراسة. لكنّ القليلَ يشي بالكثير، ويشير بإصبع ثابت أننا بصدد ظاهرة سينمائية وإنسانية فريدة، اعتلت باستحقاق مكانةً حميمة في قلوب الناس، فغدت فتاةَ أحلام كلّ رجل، ونموذجَ اكتمال أنثويّ ضاجًّا بالحياة والسِّحر تتمناه لنفسها كلُّ فتاة.
المصري اليوم
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |