صلاة البدء بعد رحيل الروائي الطاهر وطار
خاص ألف
2010-08-15
هكذا كما اعتدنا في سالف ما مضى من عمر، كما اعتدنا نمتص جمرات أنباء رحيل من صنعوا الحياة.. هكذا اعتدنا دائما أن للغد احتمالات للخفق وتفاصيل في شراهة الوصول، كما الكون يعج بمواليد بدؤها البكاء ثم مساحة للفرح.. أيضا هو يعج بالوفيات ومساحات للحزن.. هي هكذا الحياة يتلقفها القلب.
للمرء كما الموت حياة واحدة جرسها موعد مع الحب.. مع نص جميل كما المطر، كما الشمس.. كما الصواعق أيضا، كما الحكمة توقظ ميتا من سباته..
أسئلة تتعبنا ونفرح كلما يغازلها الجواب، أو تفضحها الفراشة عندما تستيقظ قبلنا وحبا للنور يحرقها الفانوس أو تغرق في الماء، عندما ينفخ الله في سواعدنا لنحيا ونكون، وحتما لنموت كي نُمكّن الآتين من حياة التفاصيل التي كانت غامضة.
كلما تحتدم المواقف كي تتشكل في ذاتها الحرة الجميلة، وتعبق الكتابة كما النور، كما الأريج، كما الفاكهة.. عفوا كما الماء لا محالة يغدو كل شيء حيا.
إنه البقاء للحكمة، للحرية، للعدالة، للصدق، للأصلح والأبهى.. ومُجمل المعنى استمرار للحب.
هكذا سيظل عمّي الروائي، الطاهر، الطائر، السابح، المتأمل، المفكر.. له الصفات المثلى في ملكوت الكتابة، هكذا سيظل عمي الطاهر وطار يعلمنا كيف ننظر إلى الرواية بميزان خفق القلب، وبحجم ارتجاج الكون، وببعد ما أراده الله حين خلق البشر ثم بسط الأرض مسرحا، هكذا سيظل يعلمنا كيف لا نهمل الحركة وكيف نبالي باللفظ، وكيف نجعل مع كل نبضة موقف لتستمر الكتابة ثم لا نأبه فيما بعد إذا متنا، فبالكتابة عاش عمي الطاهر وطار أكثر مما تتطلبه حياة الإنسان العادي، هكذا سيظل عمي الطاهر يعلمنا أن عمر المرء فيما كتب وليس فيما تثبته شهادة الميلاد.. إذن فعمي الطاهر لم يمت هو خالد بنصوصه ومواقفه الطيبة..
لم يعتذر لي عمي الطاهر مرة خلال كل زياراتي، لم يعتذر أبدا كما يفعل الكتاب الكبار بحجة أنهم منشغلون بكتابة نصوص، أو أنهم متعبون من زيارات القراء كما يفعل المولعون بالشهرة، لا أقصد أنني أجده متفرغا دائما، فأنا أشعر بعنفوان كبير حين تخبرني الكاتبة بأنه قال لي انتظر، وأظل انتظر وكلما مضى الوقت اشعر بالإعجاب بنفسي لأنني أعرف حجم مَن أنتظر، وعندما أعود لا تنتابني أي عقد وأنا أتحدث لأولادي، أقول لهم وأنا أشير إلى صورته في شاشة التلفاز أو على صفحة جريدة أو مجلة: ها هو ذا من كنت مجتمعا معه أثناء سفري الفارط!!
الرجل متواضع إلى درجة لا يستوعبها أشباه الكتاب ممن سمح لهم الروائي التسلل إلى مكتبه الأنيق، الذي يخبئ في لُجّه الكتب النادرة المقربة إلى روحه، كان يلتمس في محياي التراجع، فكان يوقظني كل مرة: تفضل.. تفضل.. لم أكن خجولا ولكنني كنت أسأل نفسي المنبهرة: إلى أين أنا سأتفضل؟ ومن الذي يشير لي بالتفضل، كان موقف يشبه ما يحدث على الصراط بحسب ما أكنه من جلل للرواية، ولعمي الطاهر وطار الروائي الذي كان يرن اسمه في خلدي منذ أيام الدراسة.
كيف كبرت أنا؟ وكيف وصلت إلى رحابة ملكوت الطاهر وطار؟ أمر احتاج كثيرا من الرجاء والتمني، أمر تطلب أيضا الكثير صراعا مع محاولات الكتابة، لأنها الطريق التي لا مناص منها للوصول إلى هذا الشموخ، ولذلك طيلة دقائقي معه في المكتب وأنا أصر على الانضباط بما يتطلبه من إنصات وتركيز، وبما يتطلبه من كبح لحاجتي في الكلام، الموضوع ليس له علاقة بضعف الشخصية كما تورط البعض، ولكنني فيما كتب لي الله من مراحل دراسية، تعلمت كيف يقبع مبتدئ أمام هامة لا تنطق عن رداءة، ولا تلفظ عن خطأ، ولا تحيد عن فائدة، كنت لا أتحدث حتى يمنحني هو الفرصة بسؤال ما، فحين إذن يتنحى عني حرج الشعور بأنني بالتسرع، فأكون بذلك قد أطحت بفائدة يمكن أن تجعلني روائيا مثله، وهذه هي رحلتي إليه ( ولكل امرئ ما نوى.. )، المبهر أكثر أنني لم أكن أنتظر منه سؤالا، بل كنت حريصا على الانضباط، مخافة أن أشوش عليه، فربما يقول لي: شبك يديك أو أنظر أمامك، الملفت أنني كنت سأفعل هذا!! فكيف قبلت ذلك من جاري المعلم صاحب دكان المواد الغذائية العامة، ولا أقبله من المعلم صاحب رواية: ( اللاّز )؟
هكذا كان عمي الطاهر بتواضعه يدفعني دفعا للكتابة، ويرسخها في ذاتي بأساليب الأنبياء الذين .. ( يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.. )، لم أجد عمي الطاهر يوما في قفص زجاجي يخشى أن يلمسه الناس، ولا على منبر ليوحي إلي من يكون هو، ولم أسمعه يوما يتحدث بطريقة العرض الثقافي ليبهر الآخر بغزارة ما يحمل من معلومات، كل حكاياته نامية من العفوية والبساطة، يحكي معك كما لو أنه أخ كبير في كنف أسرة رحيمة.. رحمه الله وأسكنه بجواره.
××××××××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف
08-أيار-2021
21-نيسان-2012 | |
25-آذار-2012 | |
31-كانون الأول-2010 | |
21-كانون الأول-2010 | |
04-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |