كيف ترقصُ تحت المطر
2010-08-23
كان نهارًا مشحونًا بالمشاغل والعمليات والأدوية والمرضى والتجوال بين العيادات والعنابر. والساعة تقتربُ حثيثًا من الثامنة والنصف صباحًا، حينما اندفع بسرعة من باب المستشفى رجلٌ عجوز في الثمانينات من عمره، يلوّح بيده التي بها ضمادة حول إصبع إبهامه، جاء ليفكّ الغُرَزَ عن الجرح، بعدما كاد يبرأ. كان يدور يمينًا ويسارًا، يهرول هنا وهناك متكئًا على عصاه، بقدر ما تسمح له الشيخوخة أن يفعل، وهو يبحث عمن يساعده لكي يمضي فورًا وهو يقول للممرضين والأطباء إنه في عجلة من أمره، لأن لديه موعدًا مهمًّا للغاية في التاسعة.
أعجبتني حيويته واندفاعه للحياة رغم الشيخوخة والوهن والعَجَز. ثم سألته أن يهدأ ويجلس، وأنا أعلم أن الأمر قد يستغرق أكثر من ساعة قبل أن يتمكن أحد الأطباء من رؤيته. رحتُ أرقبه وهو ينظر في ساعته كل دقيقة بقلق بالغ، فقررت، بما إنني لم أكن مشغولاً تلك اللحظة مع مريض آخر، أن أفحص جرحه. من الفحص تبيّنتُ أن القطع بإبهامه كان قد التأم. لذلك استأذنتُ من أحد الأطباء المختصين، وجلبتُ الأدوات اللازمة لإزالة الغرز. ثم عقمتُ جرحه وضمّدته.
بينما كنتُ أعمل في جرحه، سألته إن كان لديه موعد مع طبيب آخر هذا الصباح، ما يفسّر أنه كان في عجلة من أمره.
أجابني الرجل بالنفي. ليس من طبيب آخر ولا موعد علاجيّ ثان. الحكاية أن عليه أن يذهب إلى دار المسنّين مبكرًا لكي يتناول الفطور مع زوجته، نزيلة الدار.
سألته عن وضعها الصحيّ، وأمراض شيخوختها التي تستلزم إقامتها في دار المسنين.
فأجابني بأنها تمكث هناك منذ وقت طويل، لأنها وقعت ضحية لمرض ألزايمر القاسي. (أحد تداعيات خرف الشيخوخة. تمّ تشخيصه أول الأمر عام 1906، على يد طبيب المخ والأعصاب الألماني لويس ألزايمر، ومنه اشتُقّ الاسم Alzheimer's. من أعراضه خلل التفكير وتشوّش المنطق والتحليل وصعوبة تذكر الأحداث والمواقف، ونسيان الناس، بمن فيهم أقرب أقارب المرء).
تكلمتُ مع الرجل بعض الوقت حول زوجته ومرضها، ثم سألته إن كانت زوجته سوف تشعر بالحزن، أو ربما ترفض تناول فطورها إن هو تأخر عنها بعض الوقت.
فاجأني بما لم أتوقّع سماعه. هي لم تعد حتى تعرف مَن هو! فقدتِ المقدرةَ على التعرّف عليه منذ خمس سنوات.
اندهشتُ كثيرًا. لم أندهش من نسيانها إياه، فأنا طبيبٌ وأعرف أن تلك طبيعة ذلك المرض الوحشيّ. أن ينسى المريضُ كلَّ عالمه القديم بما فيه ومَن فيه. بل كانت دهشتي من الرجل ذاته. إن كانت زوجته لم تعد تعرفه، ففيمَ تعجّله بالذهاب إليها، وإصراره على أن يزورها كل صباح، ليتناول فطوره مع امرأة لم تعد تحمل له أية ذكريات أو معرفة. امرأة لا تعبأ بوجوده ولا تعيره أي اهتمام.
سألتُه: ’ومازلتَ تذهبُ كلَّ صباح، رغم أنها لم تعد تعرف مَن أنت؟‘
ابتسم الرجلُ وهو يربت على يدي وقال:
’هي لا تعرف مَن أنا، لكنني مازلت أعرف مَن هي.‘
كان عليّ أن أقمع دموعي كيلا تخونني وتفرّ من عيني، وهو يغادر. شعرت بذراعيّ تقشعّران. وقلتُ لنفسي: ’ذلك هو نوع الحب الذي عشتُ طيلة حياتي أتمناه.‘
الحبُّ الحقيقي ليس جسديًّا ولا رومانسيًّا.
الحبُّ الحقيقيّ هو قبول كل ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لن يكون أبدًا.
أكثر الناس سعادةً ليسوا بالضرورة مَن يمتلكون الأفضلَ في كل شيء؛ بل هم من يصنعون الأفضلَ مما يمتلكونه بالفعل، وإن كان قليلا أو معطوبًا.
’الحياة ليست كيف نقدر أن نحيا أثناء العاصفة، بل كيف نرقصُ تحت المطر.‘
كانت تلك شهادة أحد الأطباء البريطانيين، الذين أُتيح لهم أن يتعلموا درس الحياة الأعمق، ليس عبر دروس التشريح، وعبر الخبرة المهنية الطويلة مع آلاف المرضى والأمراض، ليس عبر الموت والحياة، بل تعلّم الدرس الحقيقي عبر جرح صغير في إبهام رجل عجوز، عرف كيف يحبّ.
ذكرتني تلك الحكاية الواقعية الجميلة، بقصة جميلة من الخيال، كتبها القاص البريطانيّ المعاصر جون ريفنسكروفت، عنوانها "أغنيةٌ من أجل جيني"، قمتُ بترجمتها إلى العربية قبل سنوات بعدما فتنتني. وسوف أنشرها عليكم الأسبوع المقبل.
جريدة الرؤية عمان
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |