محمد أركون وإعادة صياغة العقل
خاص ألف
2010-09-21
بكيتُ إثرَ مخاضِ ميلادٍ - وفاة - عظيمٍ على رفوفِ مكتبتي المتواضعةِ لأن الكتابَ لا يموت والكتبُ لا تبكي، بكيتُ على وقعِ أحاديث أُصرّ على أنها ليست حزينةً لأنها تشبهُ تلك التباشيرَ التي يتناقلها الناسُ عند بوادرِ بعثِ الأنبياءِ، لا أحسبُ نفسي من المبتدعين إذا قلتُ أن محمد أركون تنبأَ في وقتٍ مبكرٍ لواقعِ ما يحدثُ الآن على صعيدِ العلاقاتِ الدوليةِ والعلاقاتِ العربيةِ على وجهٍ أخص، ذلك ما كنتُ ألتمسهُ في نقاشاتهِ المستمرةِ بخصوصِ بناءِ الإنسانِ على ضوءِ فلسفةِ الفكرِ الإسلامي ومقارنتها بالفلسفاتِ الصديقةِ والمعاديةِ، ومبادرته في طرحِ منهجيةٍ لائقةٍ لمزواجةِ الدينِ بالحداثةِ حتى لا يموت التاريخُ أو يتحنط في نقطةٍ ما، فهو يصرُ على طرحِ المكنوناتِ العقليةِ العربيةِ والبحثِ فيها، وفي سبلِ وصْلها بالآخرِ كضرورةٍ تقتضيها الحضارةُ وفقَ عُسر مخاضِ التجديدِ الذي عطّلتهُ تهمةُ قصورِ اللغةِ العربيةِ والدينِ الإسلامي، هذه التهمةُ التي أشْهَرَهَا وروجَ لها الغربُ الذي احتكرَ النظرياتِ واحتكرَ مبادرةَ الإبداعِ والاختراعِ.
هكذا اشتغلَ أركون على ترميمِ الصحوةِ الإنسانيةِ بمختلفِ مناحيها، بل وصلَ إلى إعادةِ الاحتفالِ بوجودِ الإنسانِ على الأرضِ، ودعوتهِ العميقةِ إلى إعادةِ صياغةِ المواضيعِ والمحاورِ التي عادةً ما يعتمدُ عليها أيُّ تجمعٍ بشريٍ يطمحُ إلى بناءِ دولةٍ بمفهومها الحضاري المنتجِ، بمعنى أدق إعادةِ صياغةِ الإنسانِ ومراجعةِ مشاربهِ الدينيةِ والسياسيةِ والثقافيةِ، وإصْرارِهِ على ضرورةِ إعادةِ تناولِ اللغة والدين كأدواتٍ ضروريةٍ للحياةِ تناولاً حياً لربطهما بدوائرِ الفعلِ والحركةِ، ومن جديدْ دراسةِ علاقتهما بالعقلِ كمحورٍ رئيسيٍ لتفعيلِ الحياةِ وإثرائها بمختلفِ الإبداعاتِ، هذه هي الحملةُ الفلسفيةُ التي اختارَ أن يخوضها بنفسهِ، ويحملُ أعباءَها وحده طيلةَ حياتهِ ثم دفعته إلى خطّ العديدِ من المؤلفاتِ المهمة، مؤلفاتٌ جديرةٌ بأن يعودَ إليها القارئُ العربيُ والأجنبيُ على حدٍّ سواءْ، عودةً حتميةً لأنها تحملُ بين طياتها فتيلَ التعايشِ الحضاريِ المفقودِ في زحامِ الحياةِ السريعةِ المكتظةِ.
المستمعُ إلى محاضراتِ البروفيسورِ محمد أركون يشعرُ كأنما يمارسُ على عقله سحراً ما ليعيدَ بعثه داخلَ ذاتهِ حتى ينطلق إنساناً جديداً، ربما سأكون محقاً إذا تجرأتُ وأسميتُ هذه الوظيفة التي كان أركون يمارسها على العقلِ، وقلتُ إنه كان يشنُ ثورةً على منطقِ الرأسِ الممتلئِ الذي أفرزتهُ المدرسةُ الكلاسيكيةُ، هذه المدرسةُ التي تستوقفنا على قداسةِ النصِ وترسمُ لنا خطاً أحمرَ يحدُ دون المرورِ إلى مسألةِ التفكيرِ والفهمِ، فعلى غرارِ محاربةِ أميةِ القراءةِ والكتابةِ فقد ذهبَ أركون إلى أبعدَ من ذلك، فإذا كانت المؤسسةُ تختصُ في معالجةِ المشكلةِ الأولى التي تزيدُ نسبتُها عن السبعينِ بالمائةِ، فمحمد أركون اختصَ في النظرِ إلى النسبةِ التي تعتبرُ نفسها في أمانٍ وخارجة عن نطاقِ هذه العاهةِ الاجتماعيةِ، أردتُ أن أقولَ: أركون دقّ مبكراً ناقوسَ خطرَ أميةٍ أخرى وهي أميةُ الفهمِ، هذه المشكلةُ يحددُ نسبتَها الوضعُ التكنولوجي للأمةِ العربيةِ وتصنيفُ المنظماتِ الدوليةِ لها على أصعدةٍ كثيرة.
الحديثُ عن فكرِ أركون يستدعي إخراجَ العقلِ من غلافهِ، أي مستوى من البحثِ يتطلبُ أن يكون المرءُ أركون آخرَ، وهي حالةٌ من الحرارةِ تصيبُ العقلَ البشري لا يتحملها إلا أركون الأصل، صعبٌ أن ينجبَ العالمُ ثانيةً مثل هذه الشخصيةِ المفكرةِ، هذه الشخصية التي أحرقتْ عقلها لإثراءِ الفكرِ والفكرِ الإسلامي بالخصوصِ. عفواً سيدي الفقيد إني سمحتُ لنفسي بأن أخوضَ الحديثَ في شخصكَ العظيم، ولكنني أدركُ تمامَ الإدراكِ أن ما قلته سوى شهادةٍ متواضعةٍ عندما أُحْرجتُ بسؤالٍ عن معلمي ومهذبي ومُنور عقلي .. رحمك الله وأسعدَ الناسَ بكتبكَ ومقالاتك.
08-أيار-2021
21-نيسان-2012 | |
25-آذار-2012 | |
31-كانون الأول-2010 | |
21-كانون الأول-2010 | |
04-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |