" لستُ أنا مَن يتكلم، هي المقبرة "
خاص ألف
2010-09-22
مِنذُ أن وطأت قدماي المدينة وأنا أعيشُ حالةَ سُكْرٍ مدهِشة؛ رغمَ أنني لمْ أذُق خَمراً بحياتي التي لا حياةَ فيها..منذُ سنين وأنا أترنّحُ ذاتَ اليمين وذاتَ الشمالْ. أجوبُ أنحاءَ غُرفتي في القومةِ والقعدة. أتأملُ في الصورِ المصلوبةِ على الحائطِ بإتقانْ، والأرواح المسجونة بين أغلفةِ الكتبْ، والطاولات المتآكلة بفعلِ الإهمال والفوضى والزمنْ. أتأملُ الأسماء و الروايات المكدّسة أمامي (كازنتزاكي /في تصوفهِ ومنقذو آلهته /- اونامونو / في شعورهِ المأساوي بالحياة /- جبرانٌ /في نبيـّهِ وحديقته /- كويلو /في خيميائهِ ودقائقه الإحدى عشر / - سليمٌ / في فراسخِ خلوده المهجورة /-ومهجورون آخرون) .
أتأملُ صُورَتي في المرآة، تلكَ الصورة التي تشبه الجميعَ إلا نفسي، هل هجرتُ نفسي؟. أتقدّمُ بضعةَ خُطواتٍ صوبَ نافذتي، تلكَ المطلةُ على المقبرة؛ على الأمواتْ ( أنا لا ُأداعب، غُرفتي تليها مقبرةْ) أتأملُ في تلك المقابر المتراصة بانتظام كانتظامِ الطوابيرِ أمامَ أي مركزٍ حكوميْ، أو كأي طابورٍ طُلابيٍ أمامَ نوافذِ أقسامهم أثناء َالتسجيلِ أو التأجيلِ، لا فرقَ عِندي !، أتأملُ تلكَ المقابرْ ، تلك الجمهورية الأنيقة، الأمواتْ، أُسافِرُ بخيالي، أندمِجُ معَهُم للحظات، نُشعلُ نيراناً مستديرة تماماً كتلكَ التي نُشاهِدُها في الأفلام، نرقصُ حولَها بضعةَ هُنيهاتٍ ثم يعودُ كلُ واحدٍ منّا إلى جحيمهِ أو جنته، هُمْ يعودونَ إلى مقابرِهم، وأنا أعودُ إلى مقبرتي، غُرفتي ( الوحدةُ مقبرةْ).
وفي الأصباح، أتأملُ عويلَ النساء وهن يُشيعنَّ جثامينَ أحبتهنَّ بنظراتٍ تختزِلُ حيواتَهم؛ بدموعٍ تختصِرُ التأريخَ كُله. أما الرجال، فيرسمونَ حلقةً مودِّعةً حولَ حُفرةٍ صغيرةٍ على هيئةِ الجسدْ، مستطيلة الشكلْ، حُفرةٌ في حُفرةْ، ثمَ يدنو أحدُهم من الميت فيلقِّنهُ بجملٍ لمْ أحفظها بعد، ثم يُهالُ عليه الترابَ كما أُهيلَ على مَن سبقه، ويبقى وحيداً، مثلي تماماً ( الوحدةُ مقبرةٌ ياأماهْ، الوحدةُ مقبرةْ) وأكثر الوحداتِ مقبرةً تلكَ التي يكون الإنسانُ وحيداً؛ غريباً، بينَ رَهطٍ من الأحباء، أو نَفرٍ من الأصدقاء، أو ثُلةٍ من الأقرباء، أو جمهرة من هذا وذاك، وأشدّ الوحدات محرقةً تِلكَ التي يكون الإنسانُ وحيداً؛ غريباً، في داخلهِ؛ في جسده؛ في كلِ ما هو له....
أتأملُ المارةَ وهمْ يتراكضونَ ويتزاحمونَ ويتلاهثونَ خلفَ ما لا أدري، البعضُ مِنهم فارٌّ من ذاته، والبعضُ مِنهم ناكِرٌ لذاته، والبعضُ الآخر لا شيَء سوى ذاته... لمِا كل هذه الذات ياأماه؟ لِما كل هذه الذات؟..
البارحة رأيتُ أحدَهُم يمرُّ بطرفِ حديقةٍ خضراء، أشبهُ ما تكون بروضةٍ من رياض الله: أشجارٌ وزهورٌ ورياحينٌ وياسمينْ، عَبَرَها دونَ أن يلتفتَ، كانَ لاهثاً ساهياً يركضُ وتسبقهُ راحتاهُ الممتلئتان مالاً، دراهمـاً، دولاراً، لا يهم، ما يهمُ( لِمَن كل هذه الأموال ياأماه؟ لِمَا كل هذه الأموالْ؟...
أتوغَّلُ في الماضي قليلاً، خُطوتان أو ثلاثْ، أتأملُ جدتي من بعيد، وجهها المجعَّد كقشرةِ الشجرة، ظهرها المحني على هيئةِ الركوعِ عندَ العبادة، ابتسامتها التي لا أذكرُ مِن وصفِها سوى البراءة.. أتأمُلها وهي تحملُ بينَ يديها رغيفاً وتخرجُ إلى الحوش، شتلةُ بصلٍ خضراء مِن هنا، وطُمطمٌ نِصفُ أحمر مِن هناك، وحُزمةُ نعناعٍ مِن طرفٍ آخر، وانتهى الأمر..أُناديها مِن بعيدْ، مِن كوةِ بيتنا الطيني، جدتي! ألا تأكلين؟ لقد بردَ الأكل، فتردُّ: لقد أكلتُ يا ولدي، لقد أكلتْ..سألتُها ذاتَ مرة بنبرةِ المداعِب: لم يبقَ أمامكِ سوى أيام معدودة وتودعين العالم، هلاَّ اختصرتِ لي الحياةَ في جملة ؟ قالتْ، وهي تشيرُ بإصبعها إلى كيسها المحشو بالتبغ:" لفافةٌ واحدةٌ في خلوةٍ مع النفس، لا أُبدِّلها بأموالِ قارون "، لم تكنْ قد سمعتْ بأموالِ أحدٍ سوى قارون......
أتأملُ وأتأملُ وأتأملْ وماذا بعد؟ عليَّ الآن، أن ارتدي ما لديَّ مِن رتوقْ، وأن أُطهِّرَ جسدي مِن جسدي جيداً، فرفاقي في الخارج، في المقبرةْ، بدؤوا يُشعلونَ نيراناً مستديرة، وعمّا قليلٍ سيبدؤونَ الرقصَ أيضاً، ثم يعودُ كلُ واحدٍ منّا إلى جحيمه أو جنته، آهٍ يا أماه، لستُ أنا مَن يتكلم، وإنما هي ( المقبرةْ ) .
عماد حسين أحمد
08-أيار-2021
03-تشرين الثاني-2013 | |
20-آب-2011 | |
30-تموز-2011 | |
06-تموز-2011 | |
12-حزيران-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |