الأحدبُ في مصعد العمارة
خاص ألف
2010-10-29
أثناء دراستنا العمارة بهندسة عين شمس، كنا نستعير المَراجعَ من مكتبة المركز الثقافي البريطاني بالقنصلية المطلّة على نيل العجوزة. أمتع لحظات أعمارنا النحيلة، قضيناها هناك، نقرأ ونكتب أبحاثنا، ونحن لا نعرف من أين نبدأ، ولا أين ننتهي، وحولنا كل تلك الكنوز الفكرية من فلسفة وعلوم وعمارة وفنون وآداب، ما يجعل المرءَ يتحسّر أنْ لن يعيش ألف عامٍ، لكي يُنهيها! وقبل عام، أطفأت المكتبةُ شمعتَها الأخيرة، وأغلقت أبوابها، بعد خمسة وسبعين عامًا من الإشراق. لماذا؟ لأن أحدًا، تقريبًا، لم يعد يرتاد المكتبة! نذكرُ دمعةً خاتلت عيني "كاثي كوستين"، آخر أمناء المكتبة، وهي تودّع حبيبتها المكتبة، بصوت يتهدج قائلةً: Farewell Sweet Heart!. يومها قال "بول سميث" مدير، إن أبواب المكتبة توصَدُ بسبب ضعف ارتباط المصريين بالقراءة! فأنْ يرتاد المكتبةَ 2000 مواطن سنويًّا، من أصل مجتمع قُوامه ثمانون مليون إنسان، فذاك مؤشر خطير!
علّق الأستاذ محمود أبو الوفا، على مقالي السابق، بأنْ اقترح إنشاءَ مكتبة صغيرة في مدخل كل عمارة، يقوم عليها أحد السُّكّان لتنظيم الإعارة، علّها تكون خطوة في اجتذاب الشباب للكتاب. وذكرني هذا المقترح "بالجرثومة" الأولى التي زجّت بي إلى ذلك العالم الساحر. فأنا أؤمن أن ثمة جرثومةً، إن ضربتك يومًا، لوقعتَ من فورك في شَرَك الكتاب، فلا تبرحه، ولا يبرحك. جيراننا بالدور السابع كانوا "يعزّلون" إلى مكان آخر. الشيّالون يحملون صناديق الأغراض إلى الشاحنة أسفل العمارة. وكنت عائدة من المدرسة، وما أن دخلتُ المصعد، حتى لمحتُ كتابًا يسقط من أحد الصناديق. فكّرَ الشِّقُّ "الطيبُ" داخلي في أن أنبه الرجلَ لما سقط منه، لكن "اللصَّ الشريرَ" داخلي انتصر، فالتقطتُ الكتاب وأخفيته في حقيبتي، وصعدتُ إلى شقتنا بالثالث. وقتها كنت أقرأ، المكتبة الخضراء وألغاز المغامرين الخمسة، وأرسين لوبين، وأجاثا كريستي وهيتشكوك. لكن الكتابَ "المسروق" كان جديدًا على ثقافتي. عنوانه "أحدب نوتردام" للفرنسي العملاق فيكتور إيجو. يومها خبأتُ الروايةَ داخل كتاب التاريخ، "الغلس"، أسترق منه مثل "خِلسة المُختلس"، بعيدًا عن عين أمي، حتى أنهيته. لازلتُ أذكر كمَّ المتعة الخرافية التي اعتمرتني لساعات، وظلّت تحلّق بي من سماء إلى سماء حتى وصلتُ إلى الفردوس الأعلى من النشوة، مع أزميرالدا الجميلة، والأحدب كوازيمودو، وأجراس كنيسة نوتردام. منذ ذلك اليوم وأنا أطارد تلك النشوة دون كلل، وأتتبع آثارها، من كتاب إلى كتاب، ومن ورقة إلى ورقة، ومن كلمة إلى أخرى. نشوةٌ عارمة، لا هي ترتوي، ولا الكتبُ تنفد.
أقول لشباب بلادي، الذين في أعناقهم وحدهم مستقبلُ البلد، دعوا الجرثومةَ الطيبةَ تضربكم. جرّبوا لسْعتَها النبيلة، واستسلموا لخَدَر مَصْلها الساحر، حتى تدمنوا إكسيرها، ولن تندموا. فمن المخجل حقًّا، أن توصِدَ مكتبةٌ بريطانيةٌ أبوابَها في بلد علّم العالمَ القراءةَ والتدوين. بلد كان يومًا معقلَ العلم والفكر والفن، ومعقل أوراق البردي وأدوات الكتابة. البلد الذي شيّد أولَ مكتبات التاريخ في معابده الفرعونية، قبل سبعين قرنًا. والبلد ذاته الذي اختاره الإسكندر الأكبر وخلفاؤه البطالمة، قبل ثلاثة وعشرين قرنًا، لكي يشيدوا على أرضه أهمَّ وأكبرَ مكتبةٍ عرفها التاريخ، ببلتيكا دي لو اكسندرينا، التي ضمّت بين رفوفها 700 ألف مجلد، لتعبر السنوات والقرون، قبل أن يحرقها "مَن أحرقها"، ويدمّرها "الذي يُدمِّر"! فظلت مصرُ النبيلةُ تبكي طفلتها، مثلما بكت كاثي حبيبتها، إلى أن شاء القدرُ أن تبتني مصرُ لنفسها مكتبةً أخرى قبل سنوات، هي واحدة من أعظم صروح العالم الراهن. مكتبة الإسكندرية الجديدة. بالقراءة والمعرفة، نعيد لمصر بعض بريقها الذي خَفُت!
عن المصري اليوم خاص ألف الكترونيا
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |