السوبر غاندي-آينشتين ـ الشعبُ، يدُ الحكومةِ الباطشةُ ا
2010-12-17
لو تصوّرنا أننا نجحنا في صناعة الإنسان السوبر. نفترض جدلاً أن تجربةً علمية ركّبت مخَّ آينشتين على وجدان غاندي. أكثر عقول البشر حِدَّةً وذكاءً، مع أكثر الأرواح رقّةً وسلامًا. ثم جئنا بهذا الإنسان الخياليّ وحبسناه في قبو مظلم وكئيب تحت الأرض. جوّعناه، وضربناه بالسياط كلَّ ليل، وبالنهار نُريقُ آدميته بكلّ الوسائل، التي يجيدها جهاز الشرطة في بلادنا لاستجواب مجرم. تُرى ماذا يحدث لذلك الكائن الفائق عقلاً وروحًا؟ ربما يصمد على رُقيه أسبوعًا، شهرًا، عامًا. لكن "الهمجيَّ" داخل هذا الإنسان المتحضّر سيشرع في الخروج بالتدريج. يومًا بعد يوم. سيبدأ بتلويث المعتقل؛ لأنه لا يشعر بالانتماء إليه. ثم تلويث نفسه. الجسد، ومن بعده الروح. فيغدو مع الوقت كائنًا كئيبًا رثًّا، يميل نحو الشرِّ والتخريب (وقد كان غاندي)، ثم يعرّج على العقل، فينحو نحو التردّي الذهني والتخلّف (وقد كان آينشتين)! ومع خفوت "السوبريْن" القديمين، الروحيّ والعقليّ، يبدأ التلوّث السلوكي في الظهور حتى يصير وحشًا. فلو حدث وأدخلنا عليه في معتقله وردةً يحملها طفلٌ، سيُفرغ فيه طاقات القهر التي ينالها كلّ يوم، فيضربه ويذلّه، وربما يلتهمه في لحظة جوع وعماء.
لا أدري لماذا يخطر ببالي هذا الخيال العبثيّ كلما فكّرتُ في حال المصريين الراهن. لا مجال للشكّ في أن من صنعوا حضارتنا القديمة كانوا سوبر بشر. في العلم والفلك والتشكيل والطب والعمارة والتدوين والسياسة، وقبل كل شيء في العقيدة والدين. نعم في الدين. ولا تصدقوا الترهات التي تقول إن المصريين القدامى شيّدوا ما شيّدوا من معابد وأهرامات بالسخرة والقهر. بل كان إيمانُهم عميقًا بأن كل حجر يضعوه في هرم، وكل كتلة يحفرونها من جبل، لتشييد معبد، هو صلاةٌ وعبادة، بما أن الفرعون الذي يشيّدون هيكله كان رمزًا للربّ، بالنسبة لهم. مستحيلٌ لعقل سَوِيّ أن يتصوّر أن حَمْل ودحرجة صخور وزنها بالأطنان، تتم دون وازع ديني عميق، وأن نقوشًا في غاية الإتقان والعلوّ الفنيّ ينتجها ضرب السياط! مستحيل. المصريُّ القديم كان أول من وحّد الله في التاريخ، ولذلك يظلُّ المصريُّ النموذجَ الأرقى للتديّن، حتى قبل ظهور الأديان التي أدخلت التشريعَ والطقس في التعبّد.
وإذن ماذا جرى لهذا الإنسان السوبر فائق ليغدو، بعد سبعة آلاف عام، هو ذاته المواطن الذي يهمل في عمله، ويكذب ويرتشي ويهين المرأة ويتواطأ على الخطأ، ويبصق في الطريق، وينافق القويَّ ويقسو على الضعيف و، و..؟ كيف قَبل بناةُ الأهرام أن يسكنوا عشش الصفيح؟! في كتاب "العبور إلى النهار"، الشهير بكتاب الموتى، كان شرط الانتقال إلى أبدية العالم الآخر، أو النهار، بعد ظلمة ليل الحياة، هو إقرار المتوفى باعترافاته السلبية بأنه: لم يكذب، لم يسرق، لم يقتل، لم يلوث النهر المقدس. ويشهد على صدق اعترافه ميزانٌ يوضع في إحدى كفتيه قلبُ الميت، الذي يمثّل ضميرَه، في مقابل الكفّة الأخرى التي توضع بها ريشةٌ تمثل الحقَّ والعدلَ والجمال.
إجابة السؤال هي أن ذلك المواطنَ النبيلَ، قديمًا، الفوضويَّ المهملَ، الآن، تعاقبت عليه حكوماتٌ فاشية ظالمة أفسدت تركيبته البشرية الفائقة وأربكت برمجةَ جيناته العريقة، وأفقدته الشعور بالشراكة في الوطن، فانتقل من مرتبة السوبر إلى مرتبة التردّي التي نراها الآن من حولنا. المواطنُ المصري القديم هو الكائن السوبر "غاندي-آينشتين" الذي أصبح الآن بطل المحبس اللاآدمي الذي ورد في التجربة الخيالية التي افتتحتُ بها مقالي.
أما التجربةُ النقيضُ، فهي أن نتخيل أننا أتينا بإنسان بدائيّ همجي، علّمناه وهذّبناه وأكرمناه واحترمنا آدميته، وجعلته حكومُته شريكًا لها في ثروات وطنه. غالب الظن سيضحى ذلك البدائيُّ، بعد برهة، إنسانًا متحضرًا. شأنَ بعض الشعوب والأمم، من حولنا، تلك التي لا تخفى على القارئ الحصيف.
قبل أعوام شاركتُ في مهرجان شعري بزيوريخ. كنتُ في الباص مع صديقي الشاعر يشرح لي معالم المدينة. وفجأة أشار بحماس إلى أحد المباني، وكاد يهمُّ واقفًا في إجلال وهو يهتف بفخر: "وهذا مبنى البرلمان!" هنا سمحتُ لنفسي أن أشرد بخيالي بعيدًا عن الشاعر وشروحاته. عقد عقلي مقارنةً عاجلة بين فخر المواطن السويسري ببرلمانه، وبين المواطن المصري وماذا عساه يقول وهو يشير إلى برلماننا! لكن هذه المقارنة استدعت مقارنةً أخرى، بين حكومتنا الذكية، وبين حكومتهم الفيدرالية الديمقراطية. الشعبُ هناك هو الذي يكتب الدستور. مستحيلٌ أن يُعدَّل حرفٌ في الدستور إلا بعد إجراء استفتاء "إلزاميّ" للمواطنين. من خلال الاستفتاء ومذكرات استبيان آراء المواطنين يمكن الاعتراض على أي قانون أقرّه هذا البرلمان الفيدرالي. حينما رفض الشعبُ السويسري الانضمامَ للاتحاد الأوربي في استفتاء عام 1992، انصاعت الحكومةُ لإرادة الشعب. وحين تمسّك الشعبُ بالفرانك ورفض اليورو عملةً له، مثل معظم دول أوروبا، لم تستطع الحكومةُ تكسيرَ إرادة المواطن. وليس وحسب في الأمور الكبرى الجلل يؤخذ رأيُ المواطنين، ثم يُعمل به، بل حتى في أبسط الأمور مثل بناء كوبري أو شقّ طريق أو عمل مطب صناعي، أو الاضطرار لقطع شجرة (وهو أمر نادر). لذلك يجد المواطنُ السويسري كلما عاد إلى بيته صندوقَ بريده مُتخمًا بمذكرات استبيان أرسلتها إليه الحكومةُ تستطلع رأيَه في أمرها! هل ترون بعد هذا عجبًا في أن يشيرَ الشاعرُ إلى البرلمان في زهو واحترام؟
يعيدنا هذا إلى مقال الأسبوع الماضي "السوبر غاندي-آينشتين"، الذي حوّلته حكوماتُه إلى مواطن كسول مهمل بليد غير فاعل. ولكن ما بالنا نرسمُ المواطنَ كأنه مفعولٌ به مغلوبٌ على أمره، غير مشارك في كارثته؟ ألم يشارك هذا المواطنُ في صناعة تلك الحكومة؟ ليس من شعب يستورد حكوماته من الخارج. ويُقال في المأثور إن كل ديكتاتور صنعه مقموعوه. ويُقال أيضًا إن كلّ شعب يستحق حكومتَه. فهل نحن نستحق حكومتنا؟ المواطن الذي كان فائقًا حتى الأمس القريب، لم يستسلم وحسب لما تصنعه به حكومته، بل كذلك لم يجتهد في صون نفسه من التردّي. الضغطُ لا يُحتمل؟ نعم. أخي جاوز الظالمون "في بلادي" المدى؟ نعم. الفقرُ والجوعُ والمرضُ والفساد، أبناءٌ شرعيون للحكم الشمولي والحزب الواحد وغياب العدالة وغياب الجمال وغياب دولة القانون وغياب ضمير الحكّام؟ نعم. ولكن أين المواطنُ من كل هذا؟ كيف يحنق الشعبُ المصريّ على حكومته، ثم يقبل أن يكون هو ذاته يدَ الحكومة التي تبطش بالشعب؟!
من المخجل، مثلا، ألا يهبَّ "الشعبُ المصريُّ كلّه" مطالبُا الحكومةَ بحق أقباط مصر في بناء كنائسهم، بذات اليُسْر الذي تُبنى به المساجد، ما بين غمضة عين وانتباهتها! من المخجل ألا يُصرَّ "الشعبُ المصريّ كلّه" على قانون موحّد لدور العبادة. من المخجل أن ينحاز الشعبُ "فجأة" لرجال الأمن الذين يسوموننا سوء العذاب منذ عقود. من المخجل ألا يحملَ "الشعبُ المصريّ كلّه" صورَ ضحايا الشرطة في العمرانية، مثلما حمل قبل شهر صورة خالد سعيد على الأعناق، وعلى صفحات الفيس بوك. من المخجل أن تهبّ مظاهراتٌ في أوروبا وأمريكا للمطالبة بإطلاق سراح 154 معتقلاً في أحداث العمرانية، وراءهم 154 أسرة فقيرة بائسة تنتظر عودة أبنائها، ولا تهبُّ تلك المظاهراتُ هنا من أبناء "الشعبِ المصريّ كلّه"! وحين أضعُ خطًّا أحمرَ عريضًا تحت عبارة "الشعب المصريّ كلّه" فلأنني أرفضُ عبارةَ "عنصري الأمة" الركيكة، مثلما أرفض عبارة "الوحدة الوطنية". لا أعرف تلك العبارتين الدخيلتين على ثقافتنا. كلّ ما أعرفه أن هناك بلدًا عريقًا اسمه مصر، وأن هناك شعبًا طيبًا اسمه الشعب المصريّ، وأن هناك حكومة "ذكية" تجتهد لتفتيت هذا الشعب، وإلهائه في فتنة مفتعلة، لتمرير: تزوير وفساد وغلاء وبطالة وانعدام عدالة وتجبُّر وقانون طوارئ، الخ، وأن هناك غافلين من الشعب، يقعون في الشَّرك، ويقدّمون للحكومة هذا التفتت وذاك الإلهاء على طبق من فضة!
جريدة المصري اليوم ورقيا
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |