بنية السرد في رواية "قضاة الشرف" -ج2-
خاص ألف
2010-12-29
للروائي الجزائري عبد الوهاب بن منصور
يتخذ التواتر شكلا واضحا في رواية قضاة الشرف، بحيث يكرّر الراوي فقرة، يتابع بها سرده المتولد للحدث الواحد بطريقة متعددة، "فالحدث أي حدث، ليس له فقط إمكانية أن ينتج ولكن أيضا أن يعاد انتاجه أي يتكرّر مرّة أو عدّة مرات في النص الواحد"1.
هذا التتابع الذي يدخل في البنية السرديّة للرواية، ويتعالق كعنصر من عناصرها، فيضع النص ضمن قالبية معيّنة توصف بالتكرار المتعدّد، الذي يتوالد عن ذاته ليتوحّد من جديد بها، أو ينطلق من ذاته ليصل إلى ذاته بحركية هي نفسها رغم تجدّدها، ويصبح سلطة على النص يموّقعه كما شاء في دائرة السرد المنغلقة عليه والمنفتحة على مسارها الحكائي المتواصل.
" إنّ آليات السلطة السردية، تشتد قوتها بفعل التكرار الدائري لصيغ أو مواقف معيّنة" 2. و"قضاة الشرف" توظّف آليات سلطتها توظيفا يجعل من الخطاب الرواي كأنّه يتخذ وجها واحدا له، يسير على وتيرة واحدة، يعيد نفسه بتواتر كبير يلاحظ بوضوح، عبر مسارات السرد المشكّل لبنيته التي تقوم على إعادة الملفوظ.
"هذا الليل الحوشي بارد ، بارد جدّا.."3 بخمسة وعشرين مرّة، بشكل لافت يعطيها الديمومة، وإقامة علاقات مع عناصره، لتوليد حركة سرديّة متجدّدة، وهذا ما يتّضح من بداية النص إلى بداية آخر فقرة منه، بدون إخلال أو تغيير لهذه البنيّة.
تقنية التكرار التي تصف الزمان بالوحشي والبرودة الشديدة، كأنّه تذكير أراده "عبد الوهاب بن منصور" ليبيّن الجو العام المخيّم على فضاءاته،ونفسيته التي عانت حرمانا وبرودة مشاعر أبويّة. الزمان المتعاقب والمتراجع هو زمن واحد عند السارد، زمن يبقى باردا، باردا جدا.
"وتقنية التكرار هذه، تكاد تكون أهم عنصر في المحاولات التجديديّة التي اقترحتها الرواية الجديدة ومارستها من خلال نصوصها الإبداعية"4. تقنية تجعل من العملية السردية تتفرّد بملامحها وتشكلاتها، ، وتتخذ لها خطّا تسير عليه بنفس واحد، لكنّه يتجّدد بين فقرة وأخرى بنفس آخر أكثر ديمومة، وقضاة الـشرف حققت تفردها الكلي، من خلال اتخاذها التكرار تقنية من تقنيات اللعبة السردية، والتتابع.
"ومن هنا يـضفي التكرار على الحركة الزمنية للسرد ذلك النوع من الضرورة الذي ندعوه بالقدر أو المصير.ويقرأ التكرار السردي الجريان الزمني بوصفه تاريخيّة أصلية، وعند ذلك الحد، يكون التكرار تحويلا للجريان الزمني إلى تاريخية أصيلة"5،في إعادة للوقائع والأحداث.
الصوت السارد
يحدث السرد في رواية "قضاة الشرف "بصيغة المتكلّم ( الذات المغتصبة) الذي افتقد حقّه المشروع ( الحكمة)، واستبعد عن المكان الأول (جبالة) منفيّا خائبا، فهو الراوي والحكاية التي تسلط عليها الأضواء، والسرد الواقع عليها، وحالة تكشف أسرارها بدون عقدة أو استحياء، ماكان مباحا أو غير مباح." فالسارد هو المؤلف نفسه وهو عنصر داخل حكائي، لأنّه يخاطب القارئ بضمير المتكلّم كما يروي مغامراته الخاصة"6.
"..جدتي جمعت حوائجها وأقسمت ألاّ تعود أبدا إلى جبالة، ودعتني، وذهبت أنا إلى وهران.أبي أصدر أمر نفي الولد العاق..لم أجد الباب بعد..الزاوية الخامسة..ثم السادسة..ثم السابعة..أحسّ بدوران رأسي..رأسي يدور وحده..أتقيّأ..أتقيّا الخمر.."7.
إنّ الراوي في " قضاة الشرف" يسرد حقيقة واقع ارتبط به، وانفصل عنه في آن واحد، واقع يشكّل صراعات بين أفراده، وخلفيات أهل "جبالة" لبلوغ المبتغى، من سلطة وامتلاك لحق غير حقهم (انتهاك العرض-تحريم وتكفير الغير-تسليط العقاب ) ، وكذا فضح والده المغتصب للسلطة بصورة تبدو جلية ، من خلال الإنفعال الداخلي للذات/ الضحيّة وقلقها.
" وهو يحكي قصته الذاتية، إنّه ذات السرد وموضوعه في آن. وتبعا لذلك يغدو الشكل السردي جوانيا، أي أنّه يحكي لنا قصة هو بطلها ومحورها، ولمّا كان كذلك فهو الفاعل الذاتي كصوت سردي يقوم بترهين خطاب قصته من خلال ضمير المتكلم" 8.
في مونولوج داخلي يكشف المدنّس فيه، معلنا تمرّده عن الديني، القيم والأعراف، وهو في سعي دائم نحو الخطيئة بأوجهها المتعدّدة، وفي صراع يأخذ طريقه نحو التأزّم واللاحل.
إنّ صوت الراوي ( الأنا/المتكلّم) يظل مهيمنا على النص عبر المسار المتّبع في السرد، ويبقى كدليل ينتظر فكّ رموزه، واقتفاء أثر الصوت/ الصدى الرابض داخله، هذا الصوت الذي يعلو في الداخل (ذات السارد) ويهفو في الخارج ( الواقع)، لأنّه غير قادر على مواجهة التسلط ( ظلم الوالد وجبروته) ، وهو في حالة انتظار وترقّب للحظات الحاسمة التي تمكّنه من كشف حقيقة والده ثم الحصول على القيمة ( الحكمة) ، واعتلاء عرش "الزاوية"، التي تحقق السلطة بكلّ أبعادها مما يجعله في صراع مع الذات لتحقيق مكبوتاتها، وصراع مع الآخر ( الوالد) الذي انتزع منه القيمة.
" أهل جبالة عند شجرة الخروب ينتظرون، عليّ أن أفصل ..الحكمة أو أبي..شيء ما يتحرّك بداخلي، سأصير بعد لحظات الآمر والناهي لهؤلاء البشر، ستقام الولائم على شرفي، وسأحظى بزيارة النساء.."9.
ونتيجة للصراع بين البطل وأبيه المغتصب "للحكمة"، نتج هذا الحوار النفسي المتشابك، الذي جعل البطل/الضحيّة مناجيّا لذاته، فتتفاعل داخله المواقف والأحداث ويتأزم الوضع أكثر في إعادة متكّررة للحدث نفسه( عنف اللحظة التي تولّدت عن السلب).
"لولا أنّ أبي أخذ منّي السبحة المكيّة وبصاق جدّي، لكنت الآن أشرف على الحضرة وأنا الآمر والناهي في الزاويّة، شعرت بحزن يتسلّل إلى أعماقي..لماذا سكتت عن ذلك وخضعت له ؟ 10.
لكنه في الواقع غير قادر على الوقوف أمام والده ومواجهته وجها لوجه، فقط يحدّث نفسه مصبرا لها ، زاعما انتصارا أكيدا.
"وحتى عندما يكون الفاعل الداخلي يبئر غيره من الـشخصيات، فإننا لانجده يبئرها إلاّ من الداخل.فليس همّه الأساس هو أن يبئرها من الخارج...لكنّه يفعله ليكشف عن دواخل الشخصيات وأعماقها، ليس من خلال صيغة السرد، ولكن من خلال العرض" 11، وكشف الأمور على حقيقتها.
ويحدث أيضا أن "يترك الراوي في المشهد مهمة السرد ويفسح المجال للحوار الذي تعبر عبره الشخصيات عن همومها وشواغلها فيتطابق زمن الحكاية مع حجم الخطاب"12.
- " لا تنس أنّه ابني، و صاحب الحضرة بعدي ( قال أبي ).
- أعرف أنّه ابنك، وصاحب الحضرة ..قبلك وليس بعدك..
أدهشني علمه بذلك، واندهش أبي، الذي تفحّص وجهي بنظراته الحادّة، كأنّه يسألني عمّن أخبره بذلك."13.
بين "قدور الكابران" و "أب البطل/ الضحيّة " يكون هذا الحوار، ليظلّ موضوع القيمة ( الحكمة ) يشغل بال الراوي، وهاجسه الكبير، بل الوحيد .
ومن هنا يلاحظ حضور الراوي بشكل واضح، تجلّى في ثلاثة مستويات:
أ/ " مستوى السرد: عندما ينقل أخبارا ماضيّة زاوج فيما بين السرد الموضوعي والسرد الذاتي.
ب/ مستوى القول: ويبرز في الحوارات أو المونولوجات .
ج/ مستوى الفعل: لأنّه يمثّل برامج سردية حاول انجازها "14.
المراجع/
1*يقطين سعيد.تحليل الخطاب الروائي.الزمن.السرد.التبئير.المركز الثقافي .الدار البيضاء.ط1993.2ص78
2*خمري خسين.فضاء المتخيّل.مقاربات في الرواية.الإختلاف.ط2002.1.ص19
3*الرواية
4* حسين خمري. فضاء المتخيل.مقاربات في الرواية. منشورات الاختلاف ط.2002.1 ص 19/20
5* بول ريكور. الوجود والزمان والسرد.ت الغانمي سعيد. المركز الثقافي العربي.ط.1999.1.ص152
6* بعلي آمنة. المتخيّل في الرواية الجزائريّة من المتماثل إلى المختلف.دار الأمل.2006. ص40
7* الرواية ص79
8* يقطين سعيد.تحليل الخطاب الروائي.الزمن.السرد.التبئير.المركز الثقافي. .الدار البيضاء.ط1993.2ص379
9*الرواية ص16/17
10*الروايةص22
11* يقطين سعيد.تحليل الخطاب الروائي. الزمن.السرد.التبئير.المركز الثقافي العربي. ص376
12* الريحاني كمال.حركة السرد الروائي ومناخاته في استراتيجيات التشكيل.دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.2005 .ص114
13* الرواية ص74
14* زويتش نبيلة. تحليل الخطاب السردي.دار الريحانة للكتاب.الجزائر2007.ص 188
aria line
2014-11-14
اعجبتني
08-أيار-2021
21-نيسان-2014 | |
28-تشرين الأول-2013 | |
13-تشرين الأول-2013 | |
09-شباط-2013 | |
17-تموز-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |