وجوب قتل مليون "برادعي" في مصر
2010-12-31
يقول المثلُ التركيّ: نصفُ طبيبٍ يُفقدك صحتَك, ونصفُ إمام يُفقدك إيمانَك." ومن عندي أضيفُ للأخير: يُشعلُ أمّةً بأسرها.
ورغم النكات التي تملأ عصرنا الراهن المحزون بسخافاتنا، نحن أبناء هذا الزمن، إلا أن أكثر النكات غلاظةً هذا البيان الذي أصدره أحدُ "الشيوخ" في البحيرة، ونشره على موقع "جمعية أنصار السنة المحمدية" منذ أيام. أفتى الرجلُ بوجوب "قتل" د.محمد البرادعي، بتهمة تحريض الشعب على عصيان نظام الرئيس مبارك! تهمة البرادعي، من وجهة نظره، أن تصريحاته فيها الحثُّ والعزم على شق عصا الناس في مصر، الذين تحت ولاية حاكم مسلم متغلّب وصاحب شوكةٍ تمكنه من إدارة البلاد. وأيًّا كان حاله في نظر البعض فهو الحاكمُ الذي يتوجب له السمعُ والطاعة في المعروف، وبالتالي لا يجوز لمثل البرادعي وسواه أن يصرح بما ذُكر! وهو، للعجب، كان رأي أرسطو في مفهوم المواطنة والطاعة للحاكم مهما كان، الرأي الذي انتقدته جموع الفلاسفة الذين جاءوا بعد أرسطو.
انتظرتُ أن يصدرَ عن رأس المؤسسة الدينية الإسلامية في مصر، ممثلة في شيخ الأزهر د.أحمد الطيب، أو مفتي الديار المصرية د.علي جمعة، رأيٌ في تلك الفتوى، لكن رأيًا لم يأت! إلى أن قطع الشيخُ انتظاري بإعلانه أنه لم يتلق أيَّ اتصال تليفوني من أية جهة، وأنه على استعداد لمناقشة أي شخص فيما قاله لأن (الحكم الشرعي واضح ولا يحتمل تعدد الأوجه)، وأضاف أن كلامه مستمدٌ من فهم النصوص وتفصيل العلماء، وأنه "عين العقل" لأنه يمنع الشر العام، فمهما كانت سلبياتُ النظام القائم في نظر البعض، فإن ضررها لا يُذكر بجانب الأضرار التي ستتأتى من العصيان المدني أو العسكري، أي الصراع على السلطة! وزيادة في تحدي المؤسسة الدينية، واستفزاز الناس الذين انتفضوا غضبًا من هذه الفتوى، بمن فيهم الإخوان المسلمين، أصدر الرجلُ فتوى جديدة بإهدار دم د.يوسف القرضاوي لأنه يؤيد دعاوى العصيان المدني!
وبغض الطرف عن هذا "اليقين المطلق" الذي يعتمر قلب هذا "الشيخ"، والذي حدا به أن يقول إن فتواه "لا تحتمل تعدد الأوجه"، وهو منطقٌ فكري أحادي مغلوط، إذ لا شيء ثمة لا يحتملُ إعادةَ التأويل، فإن صمتَ المؤسسة الرسمية ينطلق من أحد احتمالين كلاهما شرّ:
الأول: أن تكون المؤسسة قد رأت في كلام "الشيخ" شططًا وخفّة لا يستأهلان الرد، خصوصًا أن التقارير المنشورة مؤخرًا تفيد بأنه سلفيٌّ معتاد على ترويج آراء مغالية تستند إلى تفسيرات متشددة. إن صحّ ذلك، فهما يرتكبان خطأً فادحًا. لأنه في السنوات الأخيرة، فقط، تحققت هذه الفتاوى الفاشية على أيدي موتورين، لا يعلمون عن أمور الدين شيئًا! إذ أن تصفية فرج فودة، وغدْر نجيب محفوظ، بخنجر، حصل كلاهما على يد جهلاء اعترفوا بأنهم لم يقرأوا حرفًا للرمزين الكبيرين، لأنهم ببساطة أميون! فقط سمع القتلةُ أن "شيخًا" أوصى بقتلهما، فكانوا الأداةَ الخشنة التي قتل بها مَن أفتى. كذلك الحال مع فتاة منقبة حطمت تماثيل الفنان حسن حشمت، التي لا تُقدّر بثمن، لأن "شيخًا" أفتى بتحريم التماثيل! فتاوى باردة، أطلقها رجال مستريحو البال، يظنون أن اللهَ قد منحهم مفتاحَ المعرفة، وصكوكَ العقاب والغفران، وأنه تعالَى اصطفاهم، دون غيرهم من الناس، لكي يحاربوا "الكفار" من العلمانيين! فيصدقهم العامةُ ويظنون، جهلاً، أن العلمانيين كفرةٌ، بينما قد يكون العلمانيُّ أشدَّ تُقًى وإيمانًا من أعتى الشيوخ. بينما العلمانيُّ رجلٌ يؤمن أن الدينَ محلّه دارُ العبادة ومكمنه القلب، وأن الوطنَ للمواطنين، بصرف النظر عن عقائدهم.
الصمتُ عن تلك الفتاوى العصبية "استخفافًا" بها، مُدانٌ وخَطِر. لأننا، من أسف، ننتمي "الآن" لمجتمع "نَقْليّ" غير "عقلي". ننقلُ عن الآخر ما يقول، فنردده ونصدقه، دون إعمال "العقل" والمنطق. الصمتُ سابقًا على التقرير السلبي الذي كتبه الشيخ محمد الغزالي عن رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، أدّى إلى تكفيره من قِبل متطرفين يتحينون الفرصةَ، فاستباحوا دمَ أهم كتَّاب العربية المعاصرين وأصابوه بالشلل، وكادوا يقتلونه. كذلك أعلن الشيخ الغزالي، نفسه، في المحكمة، أن تهمة قاتل فرج فوده، هي، وحسب، الافتئاتُ على السلطات المنوط بها تنفيذ فتوى القتل! ثم نتساءل بدهشة، للعجب: لماذا يقرنون بين الإسلام وبين الإرهاب؟! بالضبط كما تتساءل أمريكا، بدهشة: لماذا يكرهنا العربُ؟! والأعجب أننا ننبري للإجابة عن السؤال الثاني ونعدد للأمريكان عديدَ الأسباب التي تدفعنا إلى كراهيتهم، ثم نصمت الصمتَ الجميل حيال السؤال الأول!
الاحتمالُ الثاني، المستبعَد: أن تكون المؤسسة الدينية موافقةً على الفتوى التي تهدر دمَ إنسان يعارض نظام الحكم! استنادًا إلى حديث يقول: "مَنْ جاءكم وأمرُكم جميعٌ يريد أن يفرِّق بينكم، فاقتلوه كائناً مَن كان"، وهو حديث، إن صحّ، فإنه منزوع من سياقه. لذلك كان يتعين على المؤسسة الدينية عدم الاستهانة بفتاوى من هذا النوع المدمر، تستبيح دمَ الناس، خاصة أننا نعيش عصرًا اختلطت أوراقُه، فأضحى كل عابر سبيل ينصِّب نفسه محاميًا للإسلام، ويحمل على عاتقه تنفيذ ما يعتقد أنه شرعُ الله، وشرعُ الله بريء مما يصنعون.
فإذا كنا نحن المسلمين نقرن بين الديانة اليهودية وبين العنف، ونستخرج من توراتهم الأسفارَ التي يستندون إليها في قتل الفلسطينيين وطردهم من ديارهم، فلماذا نحلل لأنفسنا قتلَ الأبرياء بفتاوى طائشة تزعم حفاظها على السِّلم العام، فيما هي تخرّب الوطن والمواطن؟ ولماذا لم يخرج قانونٌ يجرِّم إطلاق الفتاوى دون مسئولية؟ وفي هذه الحالة: لماذا يُترك هذا الشيخ وأشباهه في مواقعهم، ويسمح لهم بالعبث فيما لا يجوز العبثُ فيه؟
إن فتوى قتل الدكتور محمد البرادعي تنسحب على ملايين المصريين، الذين وقّعوا على بيانه للتغيير والذين لم يوقعوا، أولئك الذين يرون أن نظام الحكم الحالي جائرٌ وينادون بتغييره، لأنه أوصل مصرَ إلى منزلة لم يهوي إليها أي نظام سابق، فشاع الفقر والجهل والمرض، وانحاز إلى الفاسدين والمنحرفين، والأصوليين، وخرّب العلاقةَ الرفيعة، التي كانت بين المسلمين والمسيحيين، حتى الأمس القريب، إلى آخر الموبقات التي تفتت كاهلَ مصرَ، وسوف تعاني منها الأجيال القادمة.
جريدة اليوم السابع
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |