ثقافة: قالوا له!
2011-01-21
فجر الثاني من أغسطس 1990 احتلّ العراقُ دولةَ الكويت، فانقسم الرأيُ العام المصري إلى فريقين. يستند كلُّ فريق منهما إلى نصوص قرآنية تؤيد رأيه. الأول يرى أن صدام حسين بطلٌ قومي، محقٌّ فيما فعل، وأن الكويتيين يستحقون لأنهم تجبّروا بثرواتهم. والثاني يرى أن التهامَ دولةٍ دولةً، عملٌ إجراميّ مهما تكن الأسباب. وبعد أيام كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل مقالاً بالإنجليزية في إحدى الصحف العالمية، يبحث فيه جذور الاحتقان الذي أدى إلى الأزمة، ويقترح سُبلاً للخروج منها، فهاجمه الطرفان كلاهما. لأن كليهما انتظر أن يؤيد الأستاذُ أحدَهما دون الآخر! متصورين أن الأمر محصورٌ بين أن تؤيد الفعلَ، أو ترفضه. ولا سبيل لرأي ثالث. فالثالثُ مرفوعٌ، حسب نظرية أرسطو.
أسوأ ما في الثقافة العربية، التي تعلّمها المصريون من الغزو الخليجيّ مع ثورة النفط، أنها تكوِّن رأيها بالأُذُن، لا بالعقل. بعد صدور رواية "آيات شيطانية" للهندي سَلمان رشدي، صدرت فتوى الخميني بإهدار دمه راصدًا مليون دولار لمن ينفّذ، فامتلأت جرائدنا بمقالات تهاجم رشدي. في حين أن قسمًا كبيرًا ممن هاجموه لا يقرأون الإنجليزية التي صدرت بها الرواية! ثم علمنا أن ثلاثة فقط قرأوها، والباقون ساروا في ركب الخميني! لستُ بصدد مهاجمة سلمان رشدي أو الدفاع عنه. فقط أُدلِّلُ على جرأتنا في استعارة عقول الآخرين، وترداد كلامهم دون وعي. ثم نستميت في الدفاع عما نجهل، وقد ندفع أرواحنا ثمنًا لرأي لم تنتجه عقولنا نحن! إنها ثقافة "قالوله". النقليةُ لا العقلية. حدث الشيء نفسه في أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، فراح ضحيتها شبابٌ لم يقرأوا الرواية أبدًا، وعديد الأمثلة ذكرتها مرارًا في مقالاتٍ السابقة!
تذكرتُ كل هذا وأنا أتابع المناقشات الدائرة الآن حول الملف الطائفي. بدايةً من جريمة نجع حمادي، مرورًا بأزمة العمرانية، وصولاً إلى تفجير كنيسة القديسيْن ليلة رأس السنة، ثم جريمة قطار سمالوط، ودون العودة بالزمن إلى مجازر الكشح والبرّ الغربي بالأقصر، وزرع قنابل في موقف سيارات حي شعبي، وعشرات الحوادث المماثلة التي تُخجل وتقتل الروح والأمل، مما يدَّعي مرتكبوها أنهم ينتمون إلى الإسلام، وأنهم إنما يجاهدون في سبيله!
أُسلِّطُ الضوءَ هنا على آراء البسطاء أكثر من تسليطه على مقالات الكُتَّاب. فالمقالات، اتفقنا معها أم اختلفنا، تعكس وعي المثقفين بالحال المتردية، ورغبتهم الصادقة في إنقاذ مصر. وهم في النهاية نخبةٌ قليلة لا تشير إلى ثقافة شعب. أما آراء البسطاء فتعكس الثقافة العامة للمصريين في اللحظة الراهنة، تلك التي تُنذر بكارثة إن لم نعمل على تصحيح منطلقاتها. منها مثلاً أن الكاتب حين يدافع عن حق المسيحي في حياة كريمة على أرضه، يُتهم "فورًا" بمحاربة الإسلام وسبّ رموزه! بل مُنضوٍ تحت لواء منظمات صهيونية تحارب الإسلام!! وفي أحسن الأحوال مرتشٍ، يكتب طمعًا في أموال جهة ما!! ولا ينتبه أصحابُ الآراء تلك، إلى أنهم يرتكبون الخطايا المركبة التي تُغضبُ الله، ويُنقصون من قدر الإسلام فيما أرادوا إعلاءه. فأيُّ دين هذا الذي يقوّضه مقالٌ صحفيّ؟!
ليست هذه هي المشكلة، على أية حال. فالكاتب يدفع، راضيًا، فاتورةَ رأيه ويتحمل تبعاته. لكن المشكلة أن المرءَ من هؤلاء منقسمٌ على ذاته ومشوشٌ فكرُه. ففيما يُعزّي المسيحيين في ضحاياهم بيدٍ، يُنكر عليهم حقوقهم باليد الأخرى. وأولها حقهم في بناء دار عبادة يذكرون اللهَ فيها حسب المنهج الذي اختاروه لأنفسهم. سبيلهم في ذلك أن الدول الأوروبية تتعنت في بناء المساجد، وتُحرِّم النقاب في الأماكن العامة! ناسين أن المسيحيَّ المصري ليس ضيفًا! ويبقى السؤالُ الغائبُ هنا: إذا كان الأوربيون يسيئون لأهلنا الذين يعيشون بينهم، فلماذا نسيء نحن (لأهلنا) الذين يعيشون بيننا؟ إذا كنا نكره الظلمَ الذي نتعرض له هناك، فلماذا نمارسه هنا؟ ولماذا لا نضرب "للغرب الكفّار الهمج" مثلاً حضاريًّا في التعايش الراقي الرفيع؟ أغلب الظن أن البسطاء يريدون مسيحيين بلا حقوق، أو أنهم، غالبًا، لا يريدونهم من الأصل!
الدين الإسلامي ينهي عن تكفير المسلم ويحرِّم دمه، هناك أحاديث شريفة تحثنا على ذلك. وقد عزل عمر بن الخطاب قائدَ جيوشه خالد بن الوليد حينما قتل كافرًا نطق الشهادتين في حرب المرتدين وقت خلافة أبي بكر الصديق. لم تشفع لسيف الله المسلول انتصاراتُه وفتوحاته. لكن بعضنا يتهم المخالفَ في الرأي من المسلمين بالكفر، دون أن يطرف لهم جفن. والقرآن نفسه مليء بالآيات التي تدعو إلى احترام أهل الكتاب، مثل الآية 199 من سورة "آل عمران"، إلا أننا نأبى إلا أن نروّعهم ونقضّ مضاجعهم استنادًا إلى آيات أخرى! ثم نستغرب حين يلجأ نفرٌ منهم إلى الغرب لنجدتهم! دون أن نسأل أنفسنا عن الأسباب التي تدعوهم لذلك! وما إذا كنا وفرنا لهم مناخًا آمنًا للحياة قبل أن نحاسبهم على أفعالهم.
بعد حادث العمرانية جاءني نجّارٌ لينجز في بيتي بعض الأعمال. هو شابٌّ تخرج لتوه في كلية التجارة، يعمل بالنجارة لأن الدولة لم توفر له عملاً يناسب مؤهله. سألتُه: "ماذا تفعل لو كنتَ مسئولاً عن استخراج تصاريح بناء الكنائس؟" انتفض من السؤال وقال: "طبيعي إني أعطل الأمر لو بيدي." "لماذا؟" "لأنهم ليسوا من ديني!" صدمتُ من الحال التي وصلنا إليها! تلك التي تجعل شابًّا في مقتبل حياته، يتقن التطرفَ ضد الآخر لمجرد اختلافه معه! وسألت نفسي: لماذا يغضبُ هذا الشابُّ إذن حين لا توفر له الدولةُ عملاً محترمًا يناسب تعليمه؟ وحين يستأثر الغنيُّ بالثروة؟ ويغترُّ الحاكمُ بالنفوذ؟ ويتجبّرُّ القويُّ بقوته؟ أليس هو ذاتُه يشبههم حين يحتمي بأكثريته، ويتجبّر بها على الأقلية؟ لكن صدمتي الأكبر في النظام الذي يرى مظاهر الانهيار الفكري والثقافي جليّةً مرعبةً ثم يتعامى عنها، بل يشجعها لأغراض رخيصة يعرفها قانون الديكتاتوريات: "أن قيادةَ شعب جاهل، أيسرُ وأسلس".
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |