;كتابات عن الحياة
خاص ألف
2011-02-23
ماذا يقول البرج
بالرغم من حرصي على الظهور بمظهر الشخص العلماني، والدفاع عن العلمانية، إلا أنني حريص جداً على قراءة برجي الفلكي يومياً في الصحف التي تقع بين يدي.
اليوم كان البرج يقول لي: تفكر كثيراً بمستقبلك وتحاول تركيز الدعائم للانطلاق في آفاق جديدة جهودك ستكلل بالنجاح. عليك التسلح بالصبر.
ابتسمت من طالعي الذي قرأت والسبب أنني سأكمل نهاية الشهر القادم، الواحد والسبعين ربيعاً من عمري، وإذ استخدم الربيع، فلأنني وبمصادفة بحتة ولدت أواخر شهر آذار، أي بعد دخول فصل الربيع ببضعة أيام، وإنني أعرف مستقبلي جيداً، فلا مفاجآت فيه سوى ما قد يحمل بعضاً من أمراض الشيخوخة التي تصيب المسنين، وهذا ماسأتلقاه بالتسليم بسنة الحياة. وقد أكون في هذه الحالة، مختلفاً عن الرئيس المصري الذي يكبرني بعقد من الزمن وبضع سنين، وهو الان مشغول بالتفكير بمستقبله، وقلق عليه.
منذ بضع سنوات طلب مني طبيب العيون مراجعته لإجراء عمل جراحي لعيني. فقدمت إليه بعد مرور أكثر من سنة على الموعد. وحين طلب تفسيراً لتأخري أجبت بأنه ليس عندي زوجة، وأنني متقاعد من الوظيفة، ولست حزبياً، وأنني غير ملتزم بأي مسؤولية، ولذا أعيش على مهلي وغير مستعجل على أي شيء.
وأضيف الآن إلى ماسبق بأنني فنان تشكيلي متقاعد، وثوروي تارك، وحالم مستقيل، ولاعمل لي سوى الجلوس في المقهى وانتقاد سائقي السيارات والحكومة والتقاليد والسائد والعادات والموروث، أما برجي الذي قرأته اليوم، فلو أنني قرأته في مطلع شبابي الأول أو الثاني، لكنت أخذته ملء عقلي، حيث كان المستقبل محور تفكيري في طلب النجاح والزواج وتحقيق الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ودحر الاستعمار والامبريالية والحصول على الحرية حتى لآخر دولة في الكرة الأرضية والسلام لكل شعوب المعمورة.
أتساءل كيف أستطيع التوفيق بين العلمانية التي أدعيها، وبين الولع بقراءة البرج، والصحف العلمانية تحرص على باب أنت والنجوم أو حظك هذا اليوم اضافة الى الكم الكبير من الكتب التي تملأ المكتبات وتتناول الحظوظ والأبراج، وإقبال الناس على شرائها.. ترى هل يعني هذا أن معظمنا يضع رجليه في القرن الحادي والعشرين، ورأسه في القرن الرابع عشر، أو قبل ذلك بكثير؟.
أوليست هذه مشكلة في أن يتخلف الرأس عن القدمين؟.
الأســير
لزمنٍ ليس بالبعيد كثيراً, ولعله حتى منتصف القرن الماضي, في حمص وربما في باقي المدن السورية أو العربية, كانت الحارة تشكل الوطن, أو العشيرة المتكاملة المتضامنة, وحدودها تشكل الحدود الإقليمية لتلك الحارة, تماماً كما هي حال الدول والأوطان في هذه الأيام. ومن الطبيعي أن تكون هناك بعض حالات الحرب أو السلم بين تلك الأحياء أو الحارات, فتنشب فيما بين أهالي حي وحيٍّ آخر معركة تستعمل فيها كل أنواع الأسلحة الشعبية المتداولة في تلك الأيام, كالمقلاعة أو التحجير, أي الرمي بالحجارة, وأيضاً العصي في حالة المواجهة والاشتباك. وفي بعض الحالات القليلة أو النادرة يكون للشبرية أو الخنجر أو موس الكباس دورٌ ضئيل. أما الأسلحة النارية كالغدارة أو المسدس والبندقية فلم يكن لأي منها أي دورٍ على الإطلاق. فالسلاح الأبيض كان أقصى ما يمكن التفكير باستعماله. أما السيف والترس فقد كانا وسيلة احتفالية استعراضية هامة في حالات السلم للترحيب بأهالي حيٍّ زائرٍ زيارة ودية, لكن ليس من أجل الحرب.
وحين كانت تحدث معركة بين حيَّين, ولأسباب لا مبرر لها فإن معظم أهل الحي يشارك بها, وإنْ جَهِلَ أغلبهم الأسباب. فالتعصب والموالاة للحيِّ أو الحارة تجعلهم ينخرطون في ذاك الشجار أو المعركة التي كانوا يسمونها ((كون)) او ((المكاونة)) أوهم ((يتكاونون)) الآن أو ((تكاونوا)) منذ مدة.
وتُذكِرنا تلك المكاونات, أي المشاجرات, التي يشارك بها أهل الحي بدون تردد ببيت الشعر العربي القديموالذي يفاخر صاحبه بانتمائه لقبيلته مفتخراً أو مستسلماً:
وما أنا إلا من غَزية إن غَوت
غَويتُ وإن ترشد غزيةُ أرشدِ
ولعل بعض أهالي حمص من القدامى يروون رواية متواترة طريفة عن مكاونةٍ حصلت بين أهل حي باب تدمر, وأهل حي باب الدريب. وكانت حصيلة ذاك (الكون) أو المعركة هو النصر المؤزر لأهالي حي باب الدريب. حيث أن أبا عنكود وهو من أهالي وسكان حي باب تدمر قد وقع أسيراً بيد أهل باب الدريب, فكانت فرحتهم لا حدود لها بذلك الأسير. فتلك المكاونات أو الشجارات لم تكن تسبب إلا الرعب والذعر بين الأطفال والنساء, وبعض الإصابات البسيطة من حجرٍ طائش, أو عصا غليظة. أما الأسير في هذا (الكون) فكان غنيمة ما بعدها غنيمة ونصراٍ لا حدود له, ودرساً لن ينساه الأعداء بإذن الله.
ولأن تلك الحارات أو الأحياء التي تشن الحروب على جاراتها لم يكن لدى أيٍّ منها سجن نظامي أو غير نظامي أو حتى نظارة للتوقيف المؤقت, فلقد حار أعيان حي باب الدريب في أيجاد مكان لحجز ذاك الأسير. غير أن الرأي استقر أخيراٍ على حجزه في ((قميِّم)) حمام العصيَّاتي التابع للحي, والقميِّم هو غرفة الوقود ومخزن للمحروقات غير البترولية بالتأكيد, فذاك الاكتشاف لم يكن قد وصل إلى المدينة بعد.
بالرغم من أن معاهدة جنيف المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب لم يكن قد تم إبرامها بعد. وحتى لو كانت قائمة وسارياً مفعولها بين الدول, فإن أيّاً من أهل باب الدريب وباب تدمر لم يكن قد سمع بها, ولا أتيح له الإطلاع على أيٍّ من بنودها. ومع ذلك فإن أحد وجهاء باب الدريب قد تبرع بطعام العشاء للأسير أبي عنكود. ولأنه لم يكن هناك سوى أسير واحد, ومن طرف واحد, فمن غير المحتمل أن تجري أية مفاوضات بين الحارتين لتبادل الأسرى. غير أن افتداء الأسير مقابل مبلغٍ من المال هو ما كان يجول في خاطر أهل باب الدريب... فانتظروا من أهل باب تدمر المبادرة لبدء المفاوضات.
في صبيحة اليوم الثاني جاء وجيهٌ آخر بطعام الإفطار, ولم تصلهم أية مبادرة تتعلق بالمفاوضات. وجاء طعام الغداء محمولاً لأبي عنكود من وجيهٍ ثالث.
بعد الظهر سرَّب أهل باب الدريب خبراً لأهل باب تدمر عن استعدادهم لفك الأسير مقابل ليرتين ذهبيتين. ولم يأتهم الجواب. بعد طعام العشاء الذي قدمه مرغماً أحد أبناء الحي للأسير, سرَّبوا خبراً عن تنازلهم إلى ليرة ذهبية واحدة لإطلاق سراح الأسير, ولم يتلقوا إي جواب. في اليوم الثالث قُدمت أيضاً وجبة إفطار لأبي عنكود, وتمت المراسلات عن القبول بمجيدي واحد لإخلاء السبيل. ولم يتلق أحدٌ جواباً.
بعد وجبة العشاء التي أُنعمت على الأسير, تُرِك له باب القُميم مفتوحاً, علَّه يلوذ بالفرارِ مادام أسره يكلِّفهم إطعامه وأهل حارته غير مكترثين.
في صبيحة اليوم التالي حينَ فُتِح باب القميم كان الأسير أبو عنكود بانتظار طعام الإفطار لكن أبا عنكود أصيبَ بخيبة أمل مريرة حين وجد أمامه القيِّم على الحمَّام لا يحمل أي طعام بل يبلِّغه بقرار فك أسره ويأمره بمغادرة القميم على الفور. توجَّه أبو عنكود إلى حيِّه بخطوات متثاقلة, حزيناً على انتهاء أيام الأسر الجميل الذي كان يعني له استراحة من العمل والإرهاق, بالإضافة إلى ثلاث وجبات طعام كل يوم. ولعله في مفهوم أيامنا هذه أنه كان يقضي فترة راحة واستجمام في فندق من فنادق الخمس نجوم.
08-أيار-2021
29-شباط-2020 | |
01-شباط-2020 | |
14-كانون الأول-2019 | |
27-نيسان-2019 | |
23-آذار-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |