أزمة الرسوم الكاريكاتورية كنموذج لتسييس الثقافة
2006-04-04
ردود الفعل الغاضبة والعنيفة، والجدل الدائر، إسلامياً وغربياً، حول الرسوم الكاريكاتورية التي توخت النيل من النبي محمد، لا يمكن بأي حال عزلهما عن العلاقة الشائكة والملتبسة عندنا (أعني في العالمين العربي والإسلامي) بين الثقافة والسياسة، والتي تميل على الدوام إلى ربط وتبعية الأولى إلى الثانية، أو بالأحرى تسييس الثقافة –كما هو الحال بالنسبة إلى مختلف أنشطة الحياة الأخرى- حيث يقتحم الفضاء السياسي المهيمن الأنساق والنظم الثقافية والدينية. ولا يترك أي فسحة للفصل بينهما، الأمر الذي يزيد حدة اضطرام المشاكل الراهنة، في ظل بيئة دولية تنضح بالشكوك والاتهامات، وأجواء محتقنة أصلاً، تسمم العلاقة بين أتباع الديانات المختلفة.
فمن جانب ثمة تصور يشيع ويسود أكثر فأكثر في الغرب، منذ هجمات 11/9/2001. وبعدها اعتداءات مدريد ولندن، بأن "الإسلام دين إرهاب"، على خلفية أعمال تنظيم "القاعدة" وأنصاره، الذي يخوض حرباً لا هوادة فيها ضد "اليهود والصليبية" كما يعلن. و يفاقم الأمر أكثر اعتداءات تستهدف الكنائس والأقليات المسحية في غير عاصمة عربية وإسلامية. ومن جانب آخر فإن بلدان العالمين العربي والإسلامي تشكو من وطأة التدخلات الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، في شؤونها الداخلية، والتي ترمي، كما يميل الظن والاعتقاد، إلى فرض وإملاء أجندة سياسية بعينها، حماية لمصالح إستراتيجية، تقع إسرائيل ضمن أولوياتها.
في ظل هذا السياق بدا من المتيسر والسهل، إشعال حرائق يمكن أن تدرج تحت خانة "حرب الحضارات أو الثقافات" التي تقع ضمن دائرة مصالح وأهداف متشابكة ومعقدة لمجموعات أصولية متشددة، هنا وهناك، ولحكومات متشبثة بسياساتها وثوابتها الأزلية هنا وهناك أيضاً. كلها سارعت لاقتناص الحدث والفرصة واستثمارهما لتحقيق مكاسب سياسية واضحة ومكشوفة. بغض النظر عن مدى التباين في المنطلقات والغايات بين هذه المجموعة المتطرفة أو تلك، أو بين حكومة وأخرى.
وهكذا لم يعد الأمر يقتصر على معاقبة الجاني فحسب، أو منع الإساءة لرموز الإسلام، بل هي "مواجهة عنيفة ومفتوحة" أو يراد لها أن تكون كذلك، وهكذا أيضاً أبيح التلاعب بعواطف الناس ومشاعرهم الإيمانية الصادقة، في سبيل مآرب سياسية ضيقة ومريبة، (إذ سنسمح لأنفسنا الارتياب بغيرة بعض الحكومات العربية مثلاً على الإسلام، خصوصاً تلك التي تتحين أي فرصة لإثبات أن العرب والمسلمين ككل هم المستهدفون وليست وحدها التي تواجه ضغوطاً دولية لأسباب معروفة، فضلاً عن إمكانات ضرب تلك الحكومات لأكثر من عصفور بحجر واحد، فهي تصرف نظر رعاياها عن طغيانها وأزمتها بتجييشهم في سبيل المقدسات، وتظهر للغرب، في الآن عينه، أن هؤلاء الرعايا (الغوغاء) الذين يحرقون السفارات هم من تطالبون بإعطائهم الحرية!) كل ذلك جرى ويجري على الضد من أعمال العقل والتفكير، وبعيداً عن التحليل والتناول العقلاني الهادئ للحدث وتداعياته. وفي صدده نجد من المفيد التوقف عند النقاط التالية:
-دول مثل الدنمارك والنرويج، والدول الإسكندنافية عامة هي أكثر قرباً وتفهماً للقضية الفلسطينية، وأكثر بعداً عن التعصب ضد العرب والمسلمين، وللتدليل على ذلك أسوق المثالين التاليين: 1 – عندما قامت إسرائيل، قبل سنوات قليلة، بتعيين كارمي جيلون سفيراً لها في الدنمارك احتج آلاف الدنماركيين والأوروبيين وجميع منظمات حقوق الإنسان الغربية تقريباً على هذا التعيين بسبب ممارسات التعذيب التي كان يرتكبها بحق الفلسطينيين عندما كان رئيساً لجهاز الشاباك.
2 – قبل أسابيع قليلة أعلن وزير المال النرويجي كريستان هالفرسون زعيم الحزب اليساري الاشتراكي بأنه يدعم مقاطعة البضائع الإسرائيلية، ما دفع البيت الأبيض، إلى إبداء قلقه الشديد، ووجهت الخارجية الأميركية إنذاراً شديد اللهجة إلى حكومة النرويج تحذرها من النتائج السياسية الخطرة التي تترتب على إعلان الوزير المذكور.
فهل ثمة أيد خفية، لعبت وتلعب في الكواليس، لإبعاد شعوب تلك البلدان عن قضايا العرب والمسلمين، وتخريب العلاقة عموماً بين الغرب والإسلام؟ الأمر الذي سيصب في مصلحة إسرائيل حتماً، من دون توجيه أي اتهام لها! وإذا صح مثل هذا الاحتمال، الذي يدعو أقله إلى التأمل، فهل أفلحت تلك الحكومات التي حشدت وجيشت، حين عملت بما يفضي إلى إنجاح مقاصد ومآرب أعداءها؟ يلفت الانتباه هنا إلى أن الرسوم المعنية نشرت قبل أكثر من أربعة أشهر، فما الذي جعلنا نسكت طوال تلك المدة، ثم ينفجر غضبنا العارم بغتة؟ ومن قبل شارع، لم يرى في معظمه تلك الرسوم بل سمع عنها فقط!
-لا يصح ولا يبد ومقنعاً، احتجاج الغرب وتمترسه خلف مقولة "حرية الرأي والتعبير" لتبرير وتسويغ أعمال مؤذية للمشاعر ومستفزة للآخر، فالحرية يتضايف معها الشعور بالمسؤولية واحترام الآخر ومعتقداته والاعتراف الحقيقي والأصيل بالتعددية الثقافية والدينية.
ثم من غير المفهوم والمعقول، أن يكون مباحاً كل شيء تقريباً في الغرب في إطار هذه الحرية، ما خلا التشكيك بـ"الهولوكوست" أو أي شيء يشتم منه، أو يؤول كـ"معاداة للسامية" والتي كان آخر ضحاياها المؤرخ البريطاني ديفيد أرفينج الذي حكمت عليه محكمة نمساوية بالسجن 3 سنوات، بسبب رأي قاله في المحرقة قبل 17 عاماً. والذي لم يجد معه اعتذاره عما فعل وقوله: "إن الإنسان يكبر ويتعلم، وإنني كبرت وتعلمت كثيراً".
مثل هذه الانتقائية الأخلاقية تبدو ليست مخلة فقط، بل أشبه ما تكون بالفضيحة حقاً، لكن مع ضرورة ملاحظة بعض المقاربات الأوروبية لتقنين الحق في حرية الرأي والتعبير والإعلام، وليس منعه، ومن الضوابط المقترحة ما تضمنه إعلان وارسو الصادر عن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في أيار "مايو" 2005، بإدانته الواضحة لكافة أشكال عدم التسامح، ذاكراً معاداة الإسلام، لأول مرة، إلى جانب معادة السامية.
وفي كل الأحوال يجب ألا نذهب في الظن أن الحكومات الغربية تملك حق السيطرة والتدخل في شؤون الصحافة، كما درجت العادة عندنا، وبالتالي الإصرار على مطالبة الحكومة الدنماركية بالاعتذار، كما لو أنها هي المسؤولة عما فعلته صحيفة "يولاندس بوستن".
الأجدى والأجدر هنا، الاقتداء بما يفعله يهود العالم، والصهاينة منهم على وجه الخصوص، وهو رفع دعوى قضائية، ليس لأنها قابلة للكسب فحسب، بل لأنها تساهم في إثارة أوسع نقاش وحوار حول الأبعاد القانونية والثقافية والحضارية للتطاول على المقدسات، أو ماهية العلاقة الواجبة بين المقدس وحرية التعبير. ذلك سيكون أكفل بنصرة قضايانا أكثر من الفورات العاطفية، التي نثور فيها لساعات ثم نخمد، وينتهي بعدها كل شيء بما فيه القضية التي تحركنا لأجلها.
وينبغي هنا الانتباه بأن من حق العرب والمسلمين التظاهر والاحتجاج بأي شكل أو وسيلة سلمية، من حقهم مقاطعة بضائع أي دولة، واستنكار التعامل معها، لكن ليس من حقهم، ومن غير المسوغ لهم، حرق السفارات والاعتداء على الكنائس أو التهديد بالقتل والتدمير، كرد على رسوم تافهة، سطحية وعابثة، نشرت في صحيفة غربية.
ردود الفعل الحمقاء والرعناء كرست وعززت التصورات المشوهة لدى الغرب عن الإسلام والمسلمين، فجاءت وكأنها تقدم إثباتاً أو دليلاً إضافياً على صحة ما يزعمون.. وزادت أيضاً من شعبية قوى وأحزاب اليمين المتطرف والعنصري في الغرب.
هنا يجدر بنا أن نتساءل، من الذي أساء ويسيء للإسلام أكثر، أهي تلك الرسوم المقيتة، أم ما قام به ويقوم به نفر، باسم الإسلام والذود عنه ونصرته من أعمال تشمئز منها النفوس وتقشعر لها الأبدان؟! كمشاهد الذبح وجز الرؤوس أمام عدسات التصوير، ثم تفاخر فضائيات عربية ببثها أمام أنظار ملايين المشاهدين، المشدوهين أو المبهرين بها ربما، وكأعمال قتل المدنيين الأبرياء بتفجيرات انتحارية في العراق وعواصم ومدن عربية وغربية شتى، كتفجير انتحاري نفسه في حفلة عرس في أحد فنادق عمان مثلاً، ثم خروج رجال دين ومثقفين على شاشات الفضائيات لتمجيد تلك الأعمال والدفاع عنها تحت هذه اليافطة أو تلك.
يضاف إلى ذلك، ما يقوم به بعض الأثرياء العرب، من بذخ وإنفاق خيالي على اللهو والتسلية وإرضاء النزوات هنا وهناك، وتقديم صورة في غاية السلبية عن اهتمام وثقافة العرب والمسلمين، فإذا كان ثمة قوالب ذهنية منمطة وسلبية ترسخت في عقول ولاشعور ملايين الغربيين، فالمسؤول عنها ليس الثقافة الغربية أو المركزية الأوروبية فحسب، بل هي تكونت، في جزء رئيس من بواعثها وأسبابها على خلفية ممارسات مدانة وسلوكيات شائعة ومعروفة لعرب ومسلمين.
خذوا هذه الواقعة، على سبيل المثال، بعد الخضة التي أحدثتها الرسوم، أعلن النائب المصري المعارض، رجب هلال حميدة، في إحدى جلسات البرلمان، بأن "الإسلام هو فعلاً دين إرهابي" مستشهداً بآية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن روابط خيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" ومضيفاً "إحنا خايفين من الإرهاب ليه؟ ما هو القرآن بيحضنا عليه..." ويصفق له نواب "الأخوان المسلمين" (انظر مقالة دلال البزري في الحياة بتاريخ 19/2/2006) فهل يحتاج هذا إلى تعليق؟!
هل يراد، يا ترى، توظيف حكاية الرسوم هذه، لتحريم أية مقاربة أو أي نقد للشأن الإسلامي، بحجة أن ذلك يدخل ضمن دائرة المساس بالمقدس، خاصة أن الكثير من الأصوليين والسلفيين ينظرون إلى الإسلام على أنه منزه عن البحث والتحليل، أو مبذول لمناهج الدرس والتشريح شأنه شأن أية ظاهرة دينية أو حضارية أخرى.
فالعقل النقدي (أو المثقف المفترض) يرفض فكرة الاستثناء والخصوصية بتمثلاتها الدينية أو العرقية المختلفة، ويرفض أن يظل الشأن الديني محتكراً من قبل فئات متطرفة واستئصالية، تعطي لنفسها وحدها حق الحديث باسم الفقه والدين، مع أنها هي الأضعف والأقل ثقافة في مجتمعاتنا.
إن إعادة بناء صورة مختلفة ومغايرة للإسلام، قومها المبادئ الإنسانية السمحة في الإسلام، وفي التراث الإنساني عامة، يلزمها ضمن ما يلزم، رفع القداسة عن التراث الفقهي، وعدم النظر إليه كمحطة نهائية، إنما الاستفادة منه لتحديثه وتطويره، والتفكير في أساليب حديثة لتسيير شؤون الحياة. يلزمها كذلك رفض تسييس الدين أو إفساح المجال للتلاعب به وتوظيفه لمآرب سياسية دنيئة، لشق الطريق أمام بناء مجتمع حر ومنفتح ومتسامح يقبل الآخر ويتعايش معه، يحترم المعتقدات والحريات العامة، بما فيها الحريات السياسية، وحرية الرأي والتعبير والإعلام.
08-أيار-2021
24-حزيران-2006 | |
22-أيار-2006 | |
23-نيسان-2006 | |
09-نيسان-2006 | |
08-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |