مادةٌ "فوق" دستورية!
2011-03-04
سمعتُ، وسمعنا جميعًا، في كتاب الفيزياء عن الأشعة فوق البنفسجية Ultra Violet، والموجات فوق السمعية Ultra Sound. مثلما سمعنا في كتب الكيمياء والجيولوجيا عن Ultra Basics، أو المواد فوق القاعدية مثل الصخور البركانية. وطبعًا سمعنا عن Ultra Conservative، وهو الرجعيّ المتطرف المغالي في المحافظة على معتقداته السياسية على نحو غير مرن. لكنها المرة الأولى التي أسمع فيها أن ثمة مادةً في دستور أية دولة اسمها: "مادة فوق دستورية"!! تُرى، هل ستكون ترجمتُها هكذا مثلا: Ultra Constitution؟ أسألُ هذا السؤال المعرفيّ البريء لأن المصطلحَ يقينًا غير موجود في قاموس أكسفورد ولا في المورد ولا حتى نجده في موسوعة بريتينيكا الشهيرة. سيكون لنا، نحن المصريين صنّاعَ التاريخ وبناةَ الحضارة، شرفُ "نحت" هذا المصطلح "البكر"، وتصديره إلى دول العالم، بعد تسجيله في بنك المعلومات باسم مصر، بوصفه "مصطلحًا إخوانيُّا"!
أما لماذا لم، وطبعًا لن، نجده في أية موسوعة ولا قاموس، فلأنه ببساطة مصطلحٌ خاطئٌ فكريًّا، مثلما هو خاطئ وجوديًّا وعلميًّا. والموسوعات تحترمُ العِلمَ مثلما تحترم العقل، بوصفه المنحةَ السماوية العُليا التي منحها اللهُ جلّ وعلا للإنسان، كي يتحمّل تبعة التكليف، ومن ثم الثواب والعقاب يوم النشور.
السببُ في هذا الحزن الذي يقطرُ من الفقرة السابقة هو تصريحٌ صحفيّ أعلنه أحد أعضاء جماعة "الإخوان المسلمون"، التي لم تعد محظورة. حين وصف المادة الثانية بالدستور المصري بأنها "مادة فوق دستورية"!! * والذي أعلمه أن الدستور، أي دستور، يضعه بشرٌ مثلنا. يخطئون ويصيبون، مثلنا. فكيف ما يضعه "إنسانٌ" يغدو "فوقيًّا" كأنه أمرٌ إلهيّ؟ هل تلك المادةُ آيةٌ سماوية أنزلها اللهُ في كتاب؟ أم وضعها بعضُ الساسة لغرض معين، قد يكون غرضًا نبيلا، وقد يكون غير نبيل، يخدم مصالحَ بعينها، في فترة زمانية بعينها؟
هل يعلم السادةُ المقاتلون في سبيل إبقاء البند العنصري الثاني في دستور مصر القديم، أن ثورةَ مصرَ الشريفةَ التي صنعها شبابُنا في يناير، قد غسلت عن المسلمين والعرب ذلك الإثمَ الذي ظلّ يلاحقهم، في عيون العالم، منذ 11 سبتمبر 2001، بوصفهم أمةَ الترويع والترهيب والتقتيل، بعدما نجح المصريون، خلال ثمانية عشر يومًا، في إزاحة ثِقل ثقيل وزنه ثلاثون عامًا، في ثورة بيضاء نقية لم يهدروا فيها نقطة دم واحدة، رغم ما أريق من دمائهم على أيدي نظام بوليسي فاشيّ؟ فلماذا لا يكون الساسةُ على مستوى رقي الثورة ونبلها، ويأبون إلا أن يتركوا بها ما يشوب ثوبَها الأبيض في عيني مصر الجميلة أولا، ثم في عيون العالم المفتوحة على اتساعها الآن علينا؟
لماذا يعتمدون مقولة ابن تيمية العجيبة: "القولُ ما قلناه، ومَن قال خلاف هذا يُستتاب فإن تاب، وإلا قتل"!! وينسون قول العلاّمة المثقف الرفيع ابن رشد حين قال: "الحكمةُ هي صاحبةُ الشّريعة، والأختُ الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر والغريزة". هل من الحكمة أن نستبقي على مادة دستورية تصنع صدعًا في نسيج هذا الوطن المتماسك الذي أثبت فيه المسلمون والمسيحيون أنهم يدٌ واحدةٌ ناصعة البياض؟ المسلمون الذين صنعوا بأجسادهم درعًا بشريًّا يحمي كنائس مصر يوم 7 يناير، فيما إخوانهم المسيحيون يصلّون صلوات العيد المجيد، مثلما صنع المسيحيون حائطًا بشريًّا يحمي المسلمين وهم يصلّون في ميادين مصر في جمعة الغضب، وجمعة الرحيل وجمعة الوفاء. ألم يقل ابن رشد المستنير: "من العدل أن يأتي الرجلُ من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه."؟ فإن كان هذا للخصوم، فما بالنا بإخواننا مواطني مصر أبناء العقيدة الأخرى؟
ولو أصروا، لسبب غامض، على عدم حذف تلك المادة الإشكالية التي تتناقض مع الدولة المدنية، فلماذا لا يفكرون في تعديل صياغتها الواحدية التي تتجاهل وجود 12 مليون مسيحي من أبناء مصر، في أقل تقدير؟ مثل هذا الاقتراح على سبيل المثال: "مصرُ دولةٌ مدينةٌ تحترم العقائد السماوية. يدين معظم مواطنيها بالإسلام، وشطرٌ منها يدين بالمسيحية، واللغة العربية هي اللغة الرسمية. وتعتمد مرجعياتُ التشريع فيها على المقاصد العليا للشرائع السماوية ومبادئ مواثيق حقوق الإنسان العالمية ومصالح المواطنين."
حينما دعا البابا شنودة الشعبَ المسيحيّ إلى عدم المشاركة في الثورة، كان يخاف على أبنائه لأنه مسئول عن أرواحهم بحكم مكانته الدينية والسياسية. لكن أبناءنا المسيحيين خرجوا إلى الثورة واستشهد منهم مَن استُشهد (تسعة شهداء حتى الآن). كلٌّ قام بدوره النبيل. البابا أمرهم بعدم الخروج خوفًا عليهم، وتنفيذًا لرسالته الدينية القائمة على السلام والصبر على الحاكم الباطش، والأبناء لم ينصاعوا لأمره وذهبوا لتحرير مصر. وهم موقنون أنهم لا يعصون أمرَه إلا من أجل عمل أمر جميل يرضاه اللهُ، ويرضاه الوطنُ الذي يحبونه: مصر. الشيءُ نفسه فعله شبابنا المسلم. حينما خرجوا للثورة بالملايين رغم تحذيرات رجال الدين الإسلاميّ. تلك هي القصيدةُ الجميلة التي كتبتها مصرُ في يناير وفبراير. رجال الدين عليهم قيودهم الدينية والتزاماتهم السياسية، تلك التي لم تُلزم أبناءنا من الثوار الشباب الذين لا يعرفون إلا أن القيد صُنع لكي يُكسر، وأن الالتزام السياسي إن لم يكن في صالح المواطن، فلا كان ولا عاش. خرجوا ثوّارًا مسلمين ومسيحيين لأن المرمى هو الجمالُ والعدالةُ والحق.
* نص المادة الثانية : الاسلام دين الدولة ، واللغة العربية لغتها الرسمية ، ومبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع
عن جريدة اليوم السابع .
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |