لا تقرأ!..
خاص ألف
2011-03-19
لو عرف الذين لا يقرؤون، والذين يركضون وراء غرائزهم، ما الذي تحتويه الكتب، لتركوا كلَّ ما لديهم، ولسعوا إلى بناء مكتبات شاهقة، ولو علموا مقدار اللذة التي تمنحها لنا القراءة، لتناسوا اللذة التي يمنحها الجسد، والتي ينفقون كل أوقاتهم في سبيل إرضائها وإشباعها بشبقٍ وعماء. أنا لا أبدل لذة القراءة بلذة الجسد، لكنني لا أميتُ جسدي أيضاً. أقرأُ وأتمتعُ بصورة جسدي في المرآة. أنا أقرأُ جسدي أيضاً، لا أفنيه.
اليوم الذي يمرّ ، دون أن أقرأ فيه أو أن أكتب، هو يوم قلق، لا أحسبه يوماً من عمري، مهما كان حافلاً بأمورٍ أخرى، تماماً كاليوم الذي يمرّ على مَن أقصد، دون أن يشبع فيه رغبةً من رغباته، أو أن يعقد صفقةً من صفقاته. لا شيء يثير الضحك بالقدر الذي يثيره الجسد حين يكون مرشداً وموجهاً للعقل. كم أشفق على ذلك العقل!، يخيل إلي أنه يقول لصاحبه في سره: ما أشقاك!. لا شيء يثير الضحك بالقدر الذي يثيره حديث أحد العابرين الذين لا علاقة لهم بالقراءة ولم تطأ أقدامهم عتبة مكتبة. يخيل إلي أن الشمس لو امتلكت زمام أمرها، لامتنعت عن إنارتهم. لا شيء يثير الضحك بالقدر الذي تثيره نسبة 40% من الأميين في العالم العربي. يخيل إلي أن القرن الواحد والعشرين قرنٌ يبكي علينا ويضحك في آن واحد.
لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم الذي رأيت فيه صديقي الروائي( ج ) وهو يرقص وحده ويتفوه بكلمات غير مسموعة، كنت أرقبه من بعيد، حركاته كانت توحي بالسكر، ظننته شارباً، اقتربتُ منه متلهفاً لمعرفة سبب رقصه الجنوني، وفوجئتُ حين قال لي إن عبارةً أخاذة قد مرت معه وهو يقرأ كتاباً لـ أوشو، العبارة التي كان يبحث عنها منذ زمن. لم أصدّقه حينها، ولم أصدّق أن عبارة واحدة يمكن أن تفعل كلّ ذلك، فأنا كنتُ في بداية الاطلاع على العالم والخروج من عالمي الشخصي. هل تودون معرفة الروائي( ج ) أكثر؟.. انه أكثر الناس فقراً، ولكنه أغنى الناس؛ كثيراً ما ينام جائعاً وكثيراً ما يرقص جائعاً؛ الجوع منحه المعرفة، والمعرفة منحته القناعة، والقناعة صنعت منه إنساناً، والإنسان الذي يقبع في داخله يقول" لا " دائماً. لذلك قد أكتفي بقراءته، أركعُ أمامه.
كما أنني لا أستطيع أن أنسى بعض أصدقائي الجامعيين الذي كانوا يقولون لي على الدوام: ما الذي تستفيده من الكتب؟! لقد شختَ بين هذه المغلّفات!، دعها وعُدْ إلى منهاجك الجامعي واحصل على شهادة ما وتوظفْ". وكم اعترتني رغبة في الانتحار، حين سألتُ صديقتي الجامعية: ما النجاح؟ فقالت: "أن تحصل على شهادة"، أجابتني باختصار، ثم رفعتْ رأسها مزهوّة، وانطلقت إلى جوار شاب آخر، تضاحكا قليلاً، ثم ذابا كالبقية في القطيع الآدمي الجامعي. تذكرتُ أيام الابتدائية، حين كنتُ أحصل على " مرحى" أو " تقدير" فتثني عليّ أمي، وتقول: برافو! . وعندما كانت تجدني أقرأ قصةً ما خارج المنهاج، كانت توبخني، وتنعتني بالكسل، وتلقي بالحقيبة المدرسية التي تحوي: (ماما بابا باسم رباب) أمامي... أيها الجامعي! النجاح ليس أن تحصل على شهادة، النجاح هو أن تكون إنساناً، وان تكون إنساناً ليس بالأمر السهل.
في الفترة الأخيرة التي زرت فيها المكتبة، لشراء كتاب ما، شعرت بالخوف والرهبة، فقد كنتُ وحيداً في المكتبة ولا أحد غيري، والوحدة مخيفة كما تعلمون!، كتبٌ كثيرة مصطفة هنا وهناك، ولكن لا أحد. اخترتُ رواية " الرابح يبقى وحيداً " لـ باولو كويلهو، ثم اقتربتُ من البائع. لم يكن وحده، فهو الآخر كان يبدو عليه أنه يخشى الوحدة، لذلك كان قد دعا أحد أصدقائه. كانا يشربان" المتة" والمتة كما تعلمون دليل الفراغ وعدم الحركة. اقتربتُ منه، سألته: كم الثمن؟ قال: 400ل س. دفعتُ له ما طلب، ثم هممتُ بالخروج. لم أكن قد بلغتُ العتبة حتى سمعتُ صديقه يقول له:" جميل أنه لا يزال هناك مَن يقرأ". ضحكتُ في سري، ثم خرجت. رأيتُ حشداً من الناس أمام محل "الشاورما"، ومجموعة شبّان يلاحقون فتاة تتمايلُ بحركات مثيرة، ظننتها عاهرة!، فقد كانت تعلم أن ثمة شبان يلاحقونها، وكانت تفتعل تلك الحركات. وفي الجانب الآخر رأيتُ "عامل تنظيفات" يحملق بشراهة في فتاة تقفُ بجوار أمها. لم يكن يكف عن التحملق، مع أن أم الفتاة لاحظته مراراً وهو يرشقها بنظراته الداعرة. لم تتماسك الأم، صاحت به: لما تنظر بهذه الطريقة؟ فقال_ أُقسمُ لكم- أنه قال: "مزاج"!. تركتُ هذه الأمزجة؛ هذه الفوضى العارمة على حالها، وعدتُ إلى غرفتي، حيث الأرواح المسجونة بين أغلفة الكتب، وحيث الحياة التي أريدها بالصورة التي تحلو لي، وحيث أصدقائي الموتى الذين يعيشون في صفحاتهم، وحيث رواية "الرابح يبقى وحيداً" التي اقتنيتها من المكتبة التي عمَّ قريبٍ ستفارق الحياة، وسنفارق الحياة، وتبقى اليابان رغم الكوارث والزلازل- أمّةُ اقرأْ.
08-أيار-2021
03-تشرين الثاني-2013 | |
20-آب-2011 | |
30-تموز-2011 | |
06-تموز-2011 | |
12-حزيران-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |