حوارٌ لم يكتبه صمويل بيكيت
2008-05-09
حدثنا محمود أمين العالم قائلا: لو أن شخصا ما، يسير في شارع ما، وسقطتْ عليه بلكونةٌ، ومات؛ ليست المصادفةُ هنا أنه مشى في شارعٍ بعينه، في لحظةٍ بعينها، فسقطتْ عليه بلكونةٌ وقتلته، بل أن المصادفةَ هي ألا يحدث كلُّ هذا. تلك هي "فلسفة المصادفة". لكنه لم يحدثنا عن صبيّ (مصريّ) يقف في بلكونة منزله (بمصر) فتقصفُ عمرَه القصيرَ رصاصةٌ (مصرية)، انطلقت من مسدس فرد "أمن" (مصري).
ويصرخ رجلٌ ملتاعٌ والدموعُ تخنقُ صوتَه في وجه اللواء محمد عبد الفتاح عمر:
ـ الرجل الملتاع: "إنتَ ابنكْ نامْ في حضنك، لكن أنا ابني رااااااح!"
فيوضحُ الإعلامي وائل الإبراشي* للسيد اللواء أن الرجلَ هو والدُ الصبيّ الشهيد. لكن اللواء (المصري!) يرفضُ بحسم منْحَ الصبيِّ لقبَ "شهيد"! يندهشُ الإبراشي من
"استخساره" مجرد لقب "لا حيقدم ولا حيأخر"، بس يمكن يريح "شويه" قلبَ أمٍّ ثكلى وأبٍ مقهور! ويسأله:
ـ الأبراشي: "يعني لو ابن سيادتك هو الذي قُتل يا سيادة اللواء؟ فيرد اللواءُ بغلظة:
ـ سيادة اللواء: "ما يغور في ستين داهية"!
يُطرق الإبراشي غيرَ مصدق، وفي فمه ماء (لأن موقعَه كمذيع يفرض عليه الحياد).
ثم يتساءل حول مشروعية الإساءة البدنية لمعتقلي المحلة. فيرد
ـ سيادة اللواء: و"يتْسِحْلوا" كمان عشان مصر!
ويتعجب المذيع قائلا:
ـ الإبراشي: إذا كانت العقلية الأمنية لضابط الشرطة تفرزُ مثل هذا "الخطاب" فماذا عن سلوكِه الفعليّ؟ ويوضح سيادة اللواء قائلا:
ـ سيادة اللواء: أن من حق الأمن أن يطلق النار "عشوائيا" وقت المظاهرات، فتصيبُ من تصيب.
ـ الإبراشي: حتى ولو كان المصابُ صبيا واقفا في حاله يتفرج من بلكونة؟ فيرد اللواء:
ـ سيادة اللواء: أيوا طبعا مادام معندوش "ثقافة الوقوف في البلكونة"!!!
!!!!!!
هذا الحوار لم يكتبه صمويل بيكيت في أوج عبثه، وليس من "سيسحلهم" سيادة اللواء "ليغوروا في 60 داهية" صهاينةً ولا جواسيسَ ولا سفاحين كما قد يتبادر لذهن القارئ، بل هم مواطنون مصريون، "زيي وزيك كده"، لا ذنبَ لهم سوى أن الأشياءَ في بلادي لا تُسمى بأسمائها.
مشكلتي في الحياة، كما يقول أصدقائي، أنني كائنٌ "مُعجميّ". يعني لا أفهم الأشياءَ إلا بردّها إلى مُسماها الأول. أصدقُ النظريةَ، حتى ولو ناقضها الواقعُ. أصدق الكتبَ والمثالَ. ولذا كنتُ أتصور أن "الأمن" وظيفته (الوحيدة) "تأمين" المواطن، لا قتله وسحله! ولذا أيضا كنت أتصور أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" كما يقول الكتاب. لكن الواقع يقول إن قانونَ الطوارئ يسمح للجهاز الأمني بالقبض على "أي مواطن" دون جريرة ويعذبه ويقتله حتى. فإذا أُثبِتت براءتُه، بعد موته، ينقسم ردُّ الفعل إلى قسمين: لو كان القائدُ اسمه: "محمد عبد الفتاح عمر" سيقول: في 60 داهية! ولو كان أي حد تاني سيقول: "معلش الله يرحمه، أهو شهيد، والشهداء عند ربهم يُرزقون."
أما والدُ طالب الجامعة الذي فُقد في المعتقلات ولم يُستدل عليه أبدا فقد توسّل على الشاشة باكيا: اِحبسوا ولادنا زي مانتوا عايزين، بس والنبي يا باشا تقولولنا: ابنكم عندنا واحنا حابسينه، عشان منفضلش ندوّر عليه!! قالها بكل صدق وبكل تسليم أن لا حقّ له أبدا في هذا البلد، وبكل اقتناع أن الطبيعيّ أن يُعتقل ابنُه دون ذنب. ولأنني كائنٌ "مُتحفيٌّ منقرض"، كما وصفني أحمد المسلماني ذات لقاء، فقد اندهشتُ كثيرا!
*في برنامج "الحقيقة" بقناة دريم- تقديم وائل الإبراشي
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |