عن المال ونظام المقايضة
2011-06-07
طالب علم.. طالب مال
واحد من أثرياء العرب ويدعى الراجحي، قرر التخلص من تحويشة العمر، والتبرع للفقراء والمساكين وأبناء السبيل بتلك التحويشة التي تقدر بنحو سبعة مليارات من الدولارات الأميركية،
والمعلومة لا تفيد فيما إذا كان قد ترك لنفسه من المال ما يقيم أوده لما تبقى له من العمر في هذه الحياة الفانية، وكان قبله منذ سنوات قد أصيب بتلك الحالة الملياردير الأميركي المدعو «بيل غيتس» صاحب «مايكروسوفت»، فهو الآخر قد تخلص من وسخ الدنيا، أي المال، وتبرع بها لمؤسسات خيرية وإنسانية، ثم دعا أمثاله من ميسوري الحال ليحذوا حذوه، وقد لاقت دعوته استجابة لدى البعض، وطنش أو قابله بالسخرية الآخرون.
اثنان لا يشبعان.. طالب علم.. وطالب مال، فالأول يموت وبين يديه كتاب، والثاني يموت وبين يديه كشف حساب لصفقة تجارية.
طالب المال الذي لا يشبع، ينظر إلى طالب العلم الذي لا يشبع ويقول: بماذا استفدت من مئات الكتب التي قرأتها؟.. هل استطعت بها شراء منزل لائق أو حتى متواضع؟ وهل حصلت من قراءاتك الكثيرة على سيارة تريحك وأفراد أسرتك من الشنططة بالباصات والسرافيس؟ ولا أسألك عن التمتع في الفنادق والمطاعم الفخمة العالمية.. دعنا من هذا، أنت تحمل في رأسك مكتبة عامرة، وكماً هائلاً من المعرفة، وأنت ولاشك تعرف أن الكثير مما تعرفه هو مغلوط، فالتاريخ الذي قرأته يقول المؤرخون إن نصفه أو أكثر غلط بغلط، لأن المنتصر يكتب التاريخ وفق هواه، حتى العلماء في كل يوم يقدمون لنا معلومة جديدة تناقض معلومة سابقة.. سألتك بالله، هاي عيشة اللي أنت عايشها بانتظار أول الشهر لقبض الراتب الهزيل؟
طالب العلم ينبري بالرد على طالب المال: الحق أقول إنني استمتعت بكل كتاب قرأته، وأنت لا تستمتع إلا بجزء بسيط مما لديك من أموال، أما ثروتك الضخمة فهي ليست أكثر من أرقام في حسابات مصرفية، أنت تستطيع امتلاك قصر بمئة غرفة، لكنك لا تقدر أن تنام إلا في غرفة واحدة، وتضع على مائدتك مئة صنف من الأطعمة، ولا يمكنك أن تأكل أكثر من حجم معدتك، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
طالب المال يرد ساخراً: هل تنصحني أن أتبرع بثروتي كما فعل الراجحي وغيتس؟ فيجيبه الآخر: كل أثرياء العالم لو تبرعوا بثرواتهم، فلن يحل هذا مشكلة الغبن الإنساني في العالم.
قال: وما الحل؟.. أجاب: لا أعرف. رد عليه بشماتة: كل هذا العلم والمعرفة التي تمتلكها وتقول لا أعرف، قال: ربما يأتي يوم على الإنسانية تبتكر الحل الذي يحقق العدالة والرفاهية والمساواة للجميع. رد طالب المال متحدياً: ولكن جميع النظريات والإيديولوجيات التي وضعها العلماء لهذا الموضوع قد باءت بالفشل. أجاب طالب العلم: لا يتوقف العلم عن البحث حتى يكتشف المعادلة الصح، فلتستمتع أنت بما تجنيه من مال، ولأستمتع أنا بما أحصل عليه من معرفة، وكل واحد بعقله الله يهنيه.
نظام المقايضة
مِنْ النكات التي تروى عن المرحوم بريجينيف زعيم الاتحاد السوفييتي السابق، وقد كان مولعاً بالسيارات السبور والقداحات الغالية الثمن والمزارع والقصور الفخمة والنياشين الرفيعة التي يمنحها لنفسه في كل مناسبة ومن دون مناسبة في بعض الأحيان، أن أمه، أي أم بريجينيف، زارته مرة في الكرملين، وكانت عجوزاً تعيش خارج الزمن والأحداث، وتحتفظ في رأسها بأوهام قديمة عن الشيوعيين وما يحملون من أفكار عن الاشتراكية والعدالة. فأخذ الولد البار يستعرض أمام والدته الترف الذي يعيشه. فما كان من الأم الطيبة إلا أن صرخت برعب: يا تقبر أمك، ترى ماذا سيفعل بك الشيوعيون إذا جاؤوا للحكم؟
طبعاً لم تتحقق مخاوف الأم الطيبة. ولم يأتِ الشيوعيون الذين كانت تتوهمهم إلى السلطة. بل سقط النظام الشيوعي الذي كان الأمل لكل فقراء ومحبي العدالة في العالم.
ومن أجل الحلال والحرام، لم يكن بريجينيف وحده المسؤول. فكل أو معظم الرفاق الزعماء ساهموا قبله بتوصيل الاتحاد السوفييتي إلى القدر المحتوم. وما كان على آخرهم الرفيق غورباتشوف عند وصوله إلى السلطة، سوى إطلاق رصاصة الرحمة. ولم يبخل برصاصة الخلاص ووضع شاهدة رصينة تشبه وقار الأيديولوجيين أثناء التنظير: هنا يرقد الاتحاد السوفييتي، عن عمر ناهز السبعين سنة قضاها بحمل النوايا الطيبة وتصدير أجمل الأحلام إلى كل فقراء العالم.
ومع سقوط المنظومة الاشتراكية سقط الحلم الكبير بعالم يتساوى فيه البشر بلقمة العيش وباقي الضرورات من احتياجات الإنسان. وبالمقابل فقد تفرّد النظام الرأسمالي بالعالم. والولايات المتحدة صاحبة تمثال الحرية المطل على ميناء نيويورك، أصبحت القوة الوحيدة بين الأمم، والوصية بلا منازع على الشعوب. أما صندوق النقد الدولي فقد غدا المتحكم العنيد برقاب البلاد وما يسكن فيها من عباد، سامحك الله يا بريجينيف!
يقال إن عشرين بالمئة من سكان العالم يملكون أكثر من نصف ثروة الكرة الأرضية. وأن الثمانين بالمئة الآخرين يتوزعون أقل من النصف المتبقي، وطبعاً ليس بالتساوي، بل إن شريحة الثمانين بالمئة تلك تتدرج من الطبقة الوسطى إلى الفقر وإلى ما دون خط الفقر، فالحرمان فالجوع. ولعل مجموعة العشرين بالمئة البالغة الثراء تسعى لتقليص عددها، وربما ليصبح ما لا يزيد على خمسة بالمئة تملك أكثر من نصف الثروة العالمية، ولتتضخم إلى خمسة وتسعين بالمئة نسبة المساكين من البشر الذين لن يكونوا سوى مجرد أرقام على سطح الكرة الأرضية التعيسة. ولعل الهزات الاقتصادية هي المؤشر على ذلك. وكثيراً سيفرح النظام الرأسمالي والتروستات التي تتحكم بالأموال. سيفرح هؤلاء بفقراء الأرض الذين لهم ملكوت السموات، وما زال الأنقياء والحالمون والمنظرون يأملون بأيديولوجية تحقق العدالة وتبعد الظلم عن الإنسان.
كيف لهذا الحلم الجميل أن يتحقق إذا كانت العقول المفكرة تجهد للحفاظ على ثروات الأثرياء، وقد أصبح بإمكان الواحد منهم أن يحمل عشرات المليارات من الدولارات في بطاقة صغيرة ذات أرقام سرية وحده يحفظ رموزها ويستطيع حمل هذه البطاقة، أو هذه المليارات في أصغر جيوبه. وحتى إذا ضاعت أو سرقت منه هذه البطاقة فما عليه سوى إخبار المصرف لإلغاء مفعولها واستبدال أخرى بها تحفظ له تلك المليارات. كذلك لم يعد هذا الميسور بحاجة إلى شوالات القنب أو الخيش لنقل أمواله من مصرف إلى مصرف، فالحاسوب الذي أصبح في الهاتف المحمول يتكفل له بذلك في أية لحظة بعيداً عن أعين اللصوص والفضوليين والحاسدين.
ويحكى أن أم الإسكندر المقدوني دعت ربها أن يصبح ابنها ذا ثروة وسلطان يستخدم بهما الأذكياء من البشر، لا أن يكون ذكياً يستخدمه أهل الثروة والسلطان.
ترى إذا عدنا بأذهاننا إلى أقدم نظام اقتصادي اكتشفه الإنسان وهو نظام المقايضة، أي قبل التعامل بالذهب والفضة والأوراق المالية، عندما كان أسلوب الشراء والبيع هو تبادل السلع. ألا يمكن أن يقال إن نظام المقايضة ذاك أكثر عدالة من الأنظمة الاقتصادية الحركية؟ فعلى الأقل هو لا يسمح بتنامي الثروات الباهظة، لأن السلع وهي التي تشكل الثروة تأخذ حجماً، وتحتاج إلى أمكنة وحراس يتقاضون أجورهم، على عكس المال المودع في المصارف الذي يتضخم بالفوائد. كما أن نظام المقايضة لا يمكن أن يصنع تلك الفوارق الهائلة بين البشر كما هو الحال عليه في وجود المال.
بعد انهيار الأيديولوجيات الكبيرة في العالم، وإحباط الحالمين بيوتوبيا جميلة، وبانتظار معجزة بشرية تحقق العدالة، قد يكون نظام المقايضة القديم وما يحوي من تخلف، هو أكثر عدالة من النظام الاقتصادي السائد. ولعل التضحية بالتقدم والحضارة والمدنية ليس أكثر خسارة من التضحية بإنسانية الإنسان.
08-أيار-2021
29-شباط-2020 | |
01-شباط-2020 | |
14-كانون الأول-2019 | |
27-نيسان-2019 | |
23-آذار-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |