الشَّحّـاذ
2008-04-07
في إحدى مدن اسكتلندا القديمة يقف تمثالٌ من البرونز لفارس مدجّج بالسلاح والدروع. يضعُ فوق كتفيه شالا طويلا ذهبيًّا ويعتمر خوذةً فضيّة برّاقة. وجهه برونزي لامعٌ جامدُ الملامح عَبوسُها كما يليق بمحارب من العصور الوسطى. ينتصب الفارس المصقولُ أمام بوابة خشبية مغلقة بلوحين متقاطعين من الخشب مثبتتين بمسامير وصواميلَ حديدية ضخمة وسلاسل. غيرُ المفهوم أن سلةً من الخوص تقبع تحت قدمي الفارس بها بعض العملات المعدنية من فئة الجنية الإسترليني ومضاعفاته! لماذا يهبُ الناسُ قروشَهم لتمثال!؟ تنظر في عيني الفارس فلا ترى إلا خواءً يرنُّ صداه في عمق الأزمنة السحيقة فتتساءل كم قتيلا قتلَ هذا السيفُ وكم طعنةً ردّها درعُه؟ ثم تتردد في قاعك مقولة علي بن أبي طالب: "لا تستحِ من إعطاء القليل فإن الحرمانَ أقلُّ منه"، فتقرر رأسا أن تجازفَ بثروتك وتضع جنيها في السلة تيمنًّا بعصر الأبطال القدامى الذي ولّى إلى الأبد. فتفاجأ بالفارس يبتسم وتتحرك ذراعُه اليمنى ببطء ليضعها فوق كتفك ويسمح لك بالتقاط صورة تذكارية معه! أما لو كانت حبيبتُك رفقتَك فسوف تنالُ منه قُبلةً فوق يدها بعدما ينحني لها كأي جنتل مان من النبلاء الكلاسيكيين! شحاذ!؟ نعم شحّاذ. فالأوربيون يتفننون في طرائق الشحاذة فتفوقوا على مخرجي الأفلام. واحدهم يعزف على كمان أو أكورديون. واحدهم يطلي جسده بالبرونز وبودرة الذهب ليصير تمثالا لا تدخله الحياةُ إلى بعدما تدفع. ولنا في الشرق فنون أخرى. مثل ترويض الثعابين وابتلاع النار والنوم على المسامير كالحواة والسحرة في الهند والمغرب ومصر وغيرها. ومفردة شَحَذَ في اللغة تعني أحدَّ السكينَ أو صقلَه، أو شحَذَ البصرَ فأحدّه وحدّق جيدا، وشحذَ الناسَ أي ألحَّ عليهم بالسؤال والتسوّل. وأحد الشعراء الصعاليك قال في ذلك بيتا شعريا موحيا: "وإني لأستحي من الله أن أُُرى/ أجرجرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ/ وأن أسألَ الخبَّ اللئيمَ بعيرَه/ وبُعران ربّي في البلاد كثيرُ".
وثمة شحاذةٌ من نوع آخر يعرفها الفلاسفة. كما عرفنا عن الإغريقي ديوجين الذي كان يحمل مصباحا في رابعة النهار، وهو الأعمى، ليبحث عن الحقيقة. ثم ينام في صندوق قذر بملابس رثّة غير عابئ بالدنيا من حوله متأملا الكون والحياة. ولما جاءه الإسكندر الأكبر عارضا أن يطلب أي شيء يريد فيحققه له في الحال، أجابه ديوجين بصلف وكبرياء: "فقط اِبعدْ، فإنكَ تحجبُ الشمسَ عني!"
وأما أشهر الشحاذين في الأدب العربي المعاصر فهو عمر الحمزاوي بطل "الشحّاذ" لنجيب محفوظ. وهي، عندي، أجمل رواياته، عطفا على "الطريق" و"ثرثرة فوق النيل". محام لامع ثري متحقق وناجح على صعيد الصحة والعمل والحياة والأسرة. كان شاعرا في شبابه وأصدر ديوانا ثم هجر الشعر بعدما انخرط في المحاماة. وفي الحياة. وفجأة، في منتصف العمر، يفقد الحماس لكل شيء وتخمل قواه وتخمدُ طاقته دون سبب مفهوم. يضيق بالعمل وبالناس وبالحياة وبنفسه. يبحث عن الرضا دون جدوى. ويظلُّ يطارد السعادةَ في شتى مكامنها ومظانّها (المعروفة) بين قوسين. اللهو، الخمر، النساء، المخدرات، السفر. ثم راح يبحث عن الله. فيتردد في عمقه السحيق قولٌ يختم الروايةَ: "إن كنتَ حقًّا تريدُني فلمَ هجرتني!؟ هي أحد أمراض البرجوازية والرفاه. لكنه المرضُ والعوَزُ الأشد وجعا من عوز المال والصحة. يهرب من الدنيا ليجد ذاته فلا يجدها. ويغرق في الأحلام والفانتازيا. ويزعجه أن الدنيا لا تتركه حتى في أحلامه. فيقول لأصدقائه وأهله إذا زاروه في الحلم: "زولوا لأرى النجوم".
لكن ثمة فنانًا آخر رأى النجوم حقًّا. كبيرةً واضحةً وموحية. ضربته سيارةٌ رعناء في بولندا فانطرح على ظهره أرضا، ليغيبَ في البرزخ العميق المظلم الفاصل بين الموت وبين الحياة. ثم يفتح عينيه فيشاهد النجومَ ساطعةً وقريبةً لو مدّ يده لأمسكها. كأنما شافَ الحقيقةَ. وشافتْه. وفي البعيد، تجلسُ امرأةٌ تحبّ الله في شرفتها. تنظر إلى السماء وتقول احفظيه لي. فحفظته. واستردت السماءُ نجومَها التي أوشكت أن تتحلّق حوله لترفعه. وقف على قدميه. وراحتِ النجومُ تبتعد ببطء حتى استقرت محلّها الطبيعي في السماء.
وثمة ُ"عمَر" آخر أعرفه. غزيرُ الشَّعرِ أيضا أسودُه. مثل الشحّاذ البطل. لكنه طفلٌ. لا يبحث عن الحقيقة ولا يطاردُ السعادة. بل يفتّشُ عن نفسه وسط الكثرة. يرجو الوحدةَ شأن المتوّحدين. ينأى عن العالم والضجيج ويبني عالمه الخاص من قشور البرتقال والقناني الفارغة وأغطية القوارير. يغمس الريشة في اللون ويرسم سماءً ونجوما وشمسا وقمرا. هوّ حر محدش شريكه يجمع معا ما لا يجتمع! في مقدمة اللوحة تنينٌ ضخمٌ يلفظُ ألسنةً من لهب حارق. وفي الركن السفليّ إنسانٌ ضئيلٌ خائفٌ يرتجف. لا حول له. ولا قوة.
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |