اِسفكسيا الجمال
2008-03-18
فاجأني حازم العظمة بهدوء: "لِيكي أنا ما بْحِبْ فيروز!" فاجأني مرتين. فمرةً لأنه شاعر. ومرّةً لأنه طبيبٌ في الأمراض النفسية. ومرّة لأنه على المستوى الإنسانيّ شخصٌ وديع ورقيق. هذه هي الثالثة. ثلاث مرات إذًا. لا بأس. أدهشني. ليس لأنني أعتبر فيروز فوق النقد كأحد أيقونات الجمال غير المعيارية التي لا تخضع لأسباب بعينها حال تفنيد جمالها. لكن لأنني أعتبر عدم تذوّق فيروز خطأ جماليًاّ ووجوديًّا وفلسفيًّا. فكيف يأتي الخطأ من شاعر وعالم في أحوال النفس البشرية؟ فضلا عن كونه سوريًّا، (هذه الرابعة) يعني من تلك البلاد التي حكيها العادي موسيقا صافية! أعني بلاد الشام الكبرى قبل تقسيمات السير سايكس والمسيو بيكو في بدايات القرن الماضي. قرأ علامات الدهشة والاستنكار في ملامحي التي تتأهبُ لمعركة فبادرني بتفسير لا يخلو من وجاهة وفلسفة. قال: فيروز أكثر جمالا مما يحتمل المرء! وااااو. حتى ولو كانت سفسطةً وهروبًا ديبلوماسيًّا من مأزق جماليّ، فإن كلامه يحمل حقيقة ما. فثمة درجات من الجمال تصيب المرء بالاختناق. أسميها "اسفكسيا الجمال"، وهذا اختراعي الخاص. حدّثنا ماركس أن أقصى اليسار السياسيّ هو أقصى اليمين السياسيّ. فالتطرّف التام في معارضة النظام ينطوي، بشكل أو بآخر، على انضواء تام تحت لوائه. وبالقياس، فإن الدرجات العليا من الجمال قد تتأبى على الاحتواء ضمن الذائقة البشرية المطمئنة. أجلى الأمثلة التي يستهويني تأملها دوما هي النار. ليس أجمل من شكل اللهب في تراقصه وتبدّل ألوانه وفيوضه بين الأحمر والبرتقالي والأرجواني والأزرق. لذلك ابتكر الإنسان الشمعة ليحصّل مشاهدة النار التي تغذي فيه منازع الجمال والرومانتيكية. النار في بهائها اللانهائي هذه لا نستطيع لمسها. ليس لأنها حارقة، لكن لأن درجة جمالها تفوق قدرة المرء على التحمّل. كيف بوسعنا أن نستوعب أن هذه الشمعة تتوسط حبيبين يتناجيان في مكان ما، هي ذاتها تجعل طفلا في مكان آخر يصرخ وجعا بعدما التهمت جسده!
وأما جون شتاينبك، الأديب الأمريكي حاصد نوبل العام 1962، فيحدثنا في قصته "اللؤلؤة" عن الصياد الهندي الأحمر الفقير جدًّا "كينو" وزوجته "جوانا" وابنهما الرضيع "كويوتيتو" يعيشون في كوخ من أعشاب الشجر يصطادون اللؤلؤ من خليج المكسيك، فيشتريه التجار الشطّار بالبخس بسبب جهل الصيادين وفقرهم الذي لا يشبهه فقرٌ آخر. وذات منحة سماوية، أو جحيمية، ينجح كينو في اصطياد "لؤلؤة العالم"، أكبر لؤلؤة صنعها بحر. لكنها، من فرط جمالها، كانت نقمة عليه وعلى أسرته، تسببت في حصده كراهية الجيران وحرق بيته وقاربه وموت طفله، فما كان إلا أن ألقاها من جديد في الماء!
كنتُ وصديقاتي نلعب لعبة مصباح علاء الدين. تقول كلُّ واحدة ماذا ستطلب من الجنيّ. واحدةٌ قالت: أن أصبح أجمل امرأة في الكون. فقلتُ: أحمقُ الأماني. فلا شك عندي أن تلك الحسناء هي أتعس البشر. لن تتمتع بلحظة واحدة في حياتها. ما أسوأ أن تحرمك العيون خصوصيتك وحريتك أن تلهو وتركض وتنام على الأرض! هل تقدر أجمل امرأة في العالم على هذا؟ الجمال المفرط مثل الثراء المفرط مثل الشهرة المفرطة كلها مهالكُ للفرح وللحياة. قلتُ سأطلبُ من الجني أن أغدو أذكى البشر. ورجعت رأسا عن قراري، فليس أسوأ من الجمال المفرط إلا الذكاء المفرط.
أما أذكى إنسان في العالم، إحصائيا، فراقصة ألمانية جاهلة. تعدى ذكاؤها ذكاء أينشين في اختبار IQ (معدّل الذكاء (Intelligence Quotient. هي حصدت 153% بينما نيوتن وآينشتين لما يتعديا 145%. فهل من حسن الطالع، أم من نكده، أن تلك الراقصة لم تدرس الرياضيات ولا الفيزياء؟
وانتبه مصممو الأزياء العالميون إلى أن الإنسان العصري بدأ يضجر من الجمال المعياري التقليدي فشرعوا، مع صيحة ما بعد الحداثة، في تدشين ثورة منظمة ضد الجمال. فظهرت موديلات الشعر الأجعد المنكوش، والأظفار السوداء والزرقاء، والملابس الممزقة والمرقعة والمكرمشة، واختفت ظاهرة كيّ الملابس التي كانت سمة الأناقة في الستينات وما قبلها.
كنا في الفرقة الثالثة بكلية الهندسة. وفي هذا قسم العمارة يأتي الطلبةُ الصغار ليساعدوا الكبار في تبييض مشاريعهم كي يتعلموا منهم. وجاءت طالبة تساعدني في مشروعي. جميلةٌ جدا لكن فقيرة لدرجة أن بنطلونها الجينز ممزقٌ عند الركبة فانفطر قلبي. همست في أذن زميلي: انظرْ إلى شجاعة البنت وثقتها بنفسها، لم تخجل من الحضور إلى الكلية ببنطلون ممزق! ألم أقل لك إن ديكتاتورية البروليتاريا قادمة أيها المتشكك؟ أين أنت يا ماركس حتى تشد على يد تلك الفتاة الرائعة؟ فقال لي: طيب اسكتي وسيبي ماركس مرتاح في نومته، مفيش داعي تزعجيه، دي ابنة رئيس القسم وملابسها تأتيها بالطائرة من باريس كل شهر
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |