بالطباشير / عمتِ صباحًا يا استاطيقا القبح
فاطمة ناعوت
2008-02-27
طبيعي أن نجد امرأةً جميلة يستلهمُها الرسامون كموديل. فالجمالُ كان ويظلُّ مطمحَ الفنِّ وقِبلتَه. الحسناوات والورود والغيمات والأشجار ووجوه الأطفال والفراشات والقمر والنجوم والنهر، كلها مفردات أصيلة في معجم الجمال. فاتنةٌ تجلس أمام لوحة التشكيل فتحاول ريشة أن تقلّد الخطوط الخارجية لجسدها وملامح وجهها ولون بشرتها لتصوغ لوحةً، لسانُ حالها يقول، مثل أمجد ناصر: "سُرَّ من رآكِ". لكن ماذا عن دواخل الحسناء تلك؟ مهلا، لم يأخذني التفلسّفُ ولستُ بصدد الكلام عما درج الحكماءُ يلهجون به حول جمال الروح ورقيّ النفس ورجاحة العقل وفرادة الشخصية إلى آخر تلك المنظومة. أنا أبسط من ذلك. أحكي عن داخل الإنسان من أحشاء ودماء وأوردة وكبد وبنكرياس. هل واردٌ أن تكون هذه التيماتُ أهدافًا أو "موديلات" لرسّام؟ هيلين تشيدويك فنانة تشكيلية إنجليزية (1953-1996) فعلت هذا.
رسمت لوحة عن الحب بين رجل وامرأة ليس بها إلا زوجان متعانقان من المخ بشري تحملهما كفُّ آدمية! فلسفتها تتوسّل حواشي الجسم الآدمي من أجل جدْل علاقة بين المتلقي وبين "الداخل"، عوضا عن "الخارج". ربما انطلق هذا التوجه من نزعتها النسوية التي جعلتها ترفض أن تجعل من جسدها، بوصفها امرأة فاتنة، موديلا للرسم. فراحت تستلهم الخلايا والأمعاء وقرنيات العيون أهدافا للوحاتها. بل تجاوزت في مسعاها العجائبي في استجلاب الفن من أشياء قبيحة في لوحتها الأشهر التي صنعتها بين عامي 91-92 وأعطتها عنوان "زهرات البَوْل"Piss Flowers . وفيها قامت هي وصديقها ديفيد نوتريس بالتبوّل على أقراص من الجليد، مما أنتج تجاويفَ وتعاريجَ ونتوءاتٍ صنعتها المادة القلوية للبول فوق صفحة الثلج. ثم التمييز بين بول المرأة وبول الرجل عبر اختلاف أشكال "الزهرات" التي صنعاها من الجليد.
وسواء أحببناها أم رفضناها أم أثارت تقززنا، تضعنا هذه التجربة أمام سؤال إشكالي ضخم. هل الجمالُ معياريّ؟ وإن نعم، فما معاييره؟ لمَ نصنعُ قائمةَ القبح من عناصر مثل: الصرصور، الغراب، الأفعى، البومة، الحذاء، الدماء، الأحشاء الخ، في مقابل معجم الجمال الشهير الذي أهلكه الشعراء واستهلكوه؟ هل الصرصور حقا كائن قبيح الشكل بالمقاييس البصرية الفنية؟ لو نحيّنا جانبا ميراثَنا العدائيّ المتراكم معه ونظرنا إليه بحياد نظرة تشكيلية لوجدنا أجنحةً نصف شفافة بلون مراوغ يقف بين الأحمر والبنيّ، وعيونا فاتنة بها عدسات مركّبة، ونجد رشاقة حركة وحبًّا للحياة لا شبيه له. ولعلنا نذاكر رواية "مصير صرصار" لتوفيق الحكيم. في الأخير سنجد اتزانا جماليا بصريا يشي بعبقرية تشكيلية وراء صنعه. هذا ما قد يقوله رجل في منتصف العمر لا يعلم شيئا عن محنة الإنسان التاريخية مع الصرصور والنظافة. كأنما زائر من كوكب آخر ليس به حشرات هبط إلى الأرض فجأة. هذا المثال الفانتازي الجدلي ألعبه أحيانا مع نفسي لكي أصنع علاقات طازجة مع الموجودات من حولي حين أكتب القصيدة. الغراب مثلا أراه كائنا فاتنا. كأنه رجل وسيم في اسموكنج رمادية أنيقة مطعّمة بالأسود والأبيض. صوته لا يجلب الشؤم كما ألصقنا به، بل أجده أجمل من هديل الحمام المخيف الذي كأنما يستلل من تحت الأرض. هكذا حبذا أن نبني علاقات جديدة مع الموجودات والكائنات التي ظلمناها كثيرا.
الذي زار حي "الملذات العابرة" في أمستردام، سوف يدهش من فتارين الزجاج التي تعرض النساء كبضائع استهلاكية. وبعدما يفيق من صدمته الوجودية حين الإنسان سلعة تُعرَض، سوف يدخل في صدمة فلسفية أخرى تضرب مفهومه الجاهز عن الجمال. حين امرأة جميلة (بالمفهوم الشائع عن الجمال من رشاقة وبياض بشرة ونعومة شعر ودقة ملامح) تُعرَض جوار امرأة سوداء بدينة جعدة الشعر غليظة الملامح، سواء بسواء. لكلٍّ سوقُها ومريدُها. والسعر موحد!
ذكرني هذا بأستاذ العمارة الذي طلب منّا في الفرقة الثانية بكلية الهندسة أن نصمم بوابة "جهنم". ثم مرّ بقلمه الغليظ الأسود ليشطب التصميمات التي خرجت جميلةً متزنةً متناسقة فنيًّا ومعماريا، ثم راح يشرح لنا "استاطيقا القبح" كأحد تيمات الخطاب ما بعد الحداثي في العمارة. وهو ما فعله بودلير شعرا حين مجّد الشيطان في "أزهار الشر". وما فعله قبله فيكتور هيجو، وإن على نحو تقليدي، حين أجبرنا أن نرى كوازيمودو، في "أحدب نوتردام" جميلا وسيما، رغم حدبة الظهر وعور العين والصمم والتشوه الجسدي المريع. القبحُ قد يكون أداةً عبقريةً لاستدعاء الجمال. حين يكون الفنانُ فنانًا.