وجه الشمس
خاص ألف
2011-10-10
هناك كنتُ أبيتُ، تحت شجرة باسقة من الجوز لها عمر الشام، وحتى قبل قيام المدينةِ، سادراً في تخيلاتي التي وهبني أياها الفقر، كمفتاح يؤدي بي إلى عوالم ملغية أو تمّ أبدالها بأحلام مشوشة في حساب الأثرياء وباعة المياه العذبة من آبار الوطن.
لا أقول كنتُ أعرف عن يقين أعدائي، إذ كان وجه الشمس، تقلباته المباغتة وتحولات عقارب الساعة ما يخلق لي السلوة والتعزية في محنتي، بعد فقداني لرواق الدار، المسامرات التي كانت تأخذني وأبناء الحارة نحو أصقاع وتواريخ ربما تفيض على الأراشيف والذاكرة اللاهثة؛ صرت، مع مرور الأعوام سعيداً بما حدث لي، بالرغم من سوداويته، حتى جاء اليوم المشؤوم الذي قدمت فيه حيوانات مفترسة ورجال من أبناء جلدتي، ما كان بمقدور مخيلتي أستيعاب ضراوة تلك البهائم ولا قسوة هؤلاء المدجيجين بالأسلحة المكسوة بالطين وعفن الأزمنة.
في البدء، ظننت بأني سقطت، كالعادة حين يلوي الجوع أحشائي، في أحدى كوابيس الليل المُفزعةِ، ما دمت كنت أنام في العراء الذي ظننت بأن ملائكة السماء هي وحدها حراس حريته البهيةِ؛ شيئاً فشيئاً، زالت الصور الضبابية عن عيني نعاس التائهةِ؛ رأيت بجلاء النهار، بأن البهائم وجنود الغابةِ لا يقتلون صعاليك وشحاذين مثلي، يعتمرون دغل الأرض ويسترون أجسادهم الناحلة برقع خام بالية؛ أسمالاً كانوا قد أستولوا عليها، والجوارج تحيط بهم من كل صوب، من مزابل المدينة. كانوا يخنقون الهواء، يفسدون الضرع، ويقتلعوا النبت الآمن من تربته السحيقةِ.
مع صخب الشارع وهتافاته التي كانت غريبة على سمعي حتى تلك اللحظة تيقنت بأن تلك الحيوانات الأسطورية وهؤلاء الرجال الذين لا يقلون ببغضهم عنها للأشياء الحية قد قتلوا مئات من أطفال بلدي، ريعان وزهور شبابه، العديد من الفتيات الساحرات كالمجرات السابحة في قبه زرقاء وشفافة، ومن لوثوا حتى مياه البئر التي كنت، في حريق صيف ملتهب كحمرة الصحارى التائهة؛ تيقنة بأنه لم يعد لنا وطناً، ولا ملجأ، لا طريق ولا مشفى لجروحنا الغائرة؛ كلنا، الشحاذون مثلي أو من فتحت عليهم السماء الغافلة كنوز ثرائها ونعومتها الخادعة.
نشف الدم في عروقي، لغزارة سيلانه في كل منعطف من تلويات أزقتنا الضيقة وطرواتها الطالعة من فراديس صنعتها أنامل مرهفة وسال من فوقها عرق الأسلاف والأخلاف، أو أن الخالق، المعماري الذي لا يضارعه في صنعته أحد هو من قام برسم خرائطها ووضع قطع الأحجار الكريمةِ ترصفُ مداخله الزاهية،ا مخارجها المُضيافةِ، وقام في قلب حيزها المحشور قببه وأقواس نصره الملونة.
أمتزجتُ والغيض يغطي جبهتي ويدميها بهذا السيل العارم والمدوي، في الدروب البعيدة في قرية نائية، كدويه في قلب العاصمة، وأريفها الوفي بجلال طبعه؛ حلب أو أدلب، درعا؛ تلكلخ أو تلبيسة، حماة، حمص أو المعرة ثم أطلقت لصوتي عبرة الذل التي ظلت تعيق صرختة وروحه، تلك التي حرمتني لعشرات الأعوام حتى من البكاء الصافي والمالح في عز الظهيرةِ؛ أطلقت صوتي المُختنقِ من تلويحةِ الفرح ومناديل البكاء الثقيلةِ، غدوتُ أهتفَ في حضن الجموع الغفيرة وهي تحيط بي وكأني أبنها المُضيعِ : الله، حرية، سوريا وبس.
كان ذلك في الأيام الأولى من قيام العيد-المجزرة، لكن مع عبور ساعات الوقتِ الأخرس وسيده الذي يدفع بقاماننا البهية نحو المسالخ التي لا حدود لتخومها، حيث يجز ويستمراً لحم الضحية،على عتبات تلك المسالخ لامستني بقوة وحنو شجاعة فتية وكأنها أولدتني تواً، أو طلعت أنا في اللحظة من رحمها الطاهر، حتى يمتلأ فمي بزغاريد النسوة والنسرينات التي تنحني بوداعة الأختِ من فوق الأرصفة وتحت عيون المارة : "السوري يرفع أيده، بشار ما بنريده".
صدقوني بأن لي اليوم وجه آخر، غير القناع الذي تلبسني مرغماً، منذ سني دراستي الأولى ومقاعدها الكالحة، المهدودة المقاعد والمحطمة النوافذ؛ لقد سقط قناع خوفي. لتضحك لأجلي كل المعمورة.
لا ينبغي أن يعتليك الحياء، الخشية أو الوساوس القديمة وتشل فمك عن ترديد حيكايتي : أنا وليد ما يمور الآن وينمو في أضلع النساء والرجال من أبناء قريتي، بسمرة وجوههم الحبية؛ لتغني أيها المنشد وصيتي الأخيرة : تبخرت كوابيس تلك البهائم وبنادق القناصة التي كان تحميها عن سماء مخيلتي. صرت رجلاً. إنساناً كفضة مياه البئر الذي عدتُ لكي أرتوي من جرفه روحه الرائقة : صباح الخير يا ثورة الملحمة، صباح الخير يا سكاني الشام المُذهبةِ. ستشرق فينا شموس وكواكب يقرأ العالم في سحر نورها أيامها الضاحكةِ. كل طفل منا صار أكثر إلقاً من قاعات الطغات ومصابيح سقوفها الوشيكة على الإنطفاء.
08-أيار-2021
22-أيلول-2018 | |
14-تشرين الأول-2015 | |
04-تشرين الثاني-2011 | |
10-تشرين الأول-2011 | |
01-آب-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |