السيارة الكبيرة التي "حرنت" عند "طلوع الثنايا" وهي متجهة إلى الشمال
2011-12-24
أفاقت من رقادها الطويل، وأخذت نفساً عميقاً بمجرد أن فُتح بابها الأيسر الذي ظل مغلقاً طوال عدة شهور.. نظرت نحو الأفق فألفت نفسها تكشفه حتى آخره، وأدركت أن هناك من مسح الغبار المتراكم عن عينيها الزجاجيتين الشاخصتين أبداً صوب الجنوب الغربي.. وقبل أن تبدأ بطرح أسئلتها الحماسية الصامتة على ذاتها المعدنية، أحست بمؤخرة "حسين الشاوي" وظهره وهما يلامسان مقعدها الأمامي، وبأصابعه الخشنة وهي تمسك مقودها الضخم الملبّس بشريط أزرق من النايلون اللاصق، وبقدميه الضخمتين اللتين تحترفان الدوس ببراعة على النهايات المسطحة لراصوراتها وتوصيلاتها.. فأحست بالسعادة أنه ما يزال فارسها وربانها، وهو الذي ما يزال سيد كينونتها منذ عشر سنوات خلت، ويمكنها التعرف عليه من بين ألف سائق.. فقد ألفت لمساته التي لا تخلو من رعونة، وصوته وهو يشدو الأغاني الفراتية على إيقاع زئيرها، كما يمكنها أن تميزه من رائحة عرقه وجوربيه، بل ومن رياح دبره.. وتعرف بالضبط متى سمّاه أحد أصحاب النجوم الكثيرة "حسين الشاوي" لتمييزه عن زميله "حسين النازح" الذي لم تتعرف عليه إلا عن بعد.. تساءلت في نفسها: "تُرى ما الأمر اليوم؟ استعداد لتدريب جديد؟ هذا ليس موعده.. الجولة التفتيشية المفاجئة التي لا أوان محدداً لها؟ ربما.. أو ربما تكون مناورة واسعة، فمنذ زمن طويل لم أتمتع بهذه المغامرة الممتعة"..
قطع "حسين الشاوي" تداعياتها حين أدار مفتاح تشغيل المحرك، فعنّ المحرك قليلاً ولم يستجب.. جفلتْ وقد أخذها بغتة. حاول حسين ثانية لكنه لم ينجح. أحست بخوف على سلامة أهم أعضائها، واستنفرت ذاتها.. حاول حسين مجدداً، فحشرج المحرك قليلاً ثم جعر كضبع جريح. تنفست الصعداء وشعرتْ بالفخر أنها لم تخذله، وراحت تهتز فرحاً على نبضات قلبها..
بعد خمس دقائق من الإحماء الاعتيادي، السيارة الخضراء المبرقعة الضخمة ذات الذيل الأسود الطويل، أصبحت جاهزة.. وضعت نفسها بتصرف "حسين الشاوي" الثلاثيني الأسمر صاحب الصوت الشجي، وسارت بتوجيهه إلى مربض قريب وأدارت له ظهرها، ثم أخرجت من قفاها سكتين عريضتين من الفولاذ لامسا الأرض المملوءة بالشحم الصناعي، ولم تبال بكتلة الصلب الهائلة التي اعتلت متنها، وكادت تجعل عجلاتها تغوص في الوحل.
في هذه الأثناء، كانت زميلاتها قد سبقنها، واصطففن في طابور طويل أمامها، وما إن التحقت بهن بعد أن صعد أحد أصحاب النجوم في المقعد الأيمن، حتى انطلقن رتلاً هادراً باتجاه لم يسرن فيه صعوداً من قبل.. الشمال!.
مضت السيارة الخضراء المبرقعة الضخمة ذات العجلات الكثيرة في ذيل الركب دون أن تعلم إلى أين، وظلت عند كل منعطف تحاول أن تلقي نظرة إلى ما بعد أول الرتل لتتبين المسار.. فجأة بدأت تتعرف على تفاصيل التضاريس التي عبرت بمحاذاتها مرة واحدة من قبل، وراحت تستعيد ذكريات قديمة.. من هنا مرتْ حين انطلقت قبل سنوات طويلة من أحد الموانئ.. وهنا توقفتْ أول مرة لتتزود بالوقود، وهناك شاهدت شاحنة محملة بالبشر، وليس بالخضار أو بالبضائع، تندفع إلى أسفل الوادي وتتناثر، وعند تلك التلة أبصرتْ لأول مرة جبال حرمون البعيدة التي ستكون ملعبها كما سمعت البعض يقولون.. قطع حبل الذكريات حديث صاحب النجوم مع حسين الشاوي لأول مرة منذ انطلاق الركب:
- ولك حسين.. شغّال هادا الراديو؟
- نعم سيدي شقّال..
- شغلو خلينا نسمعلنا شي غنية..
- حاضر سيدي..
ينبعث ضجيج خفيف من الراديو الذي زُرع غصباً في السيارة الخضراء المبرقعة القادرة على حمل خمسين طناً.. يبحث حسين بأنامله المفسّخة التي يغوص بها الشحم والمازوت حتى عظم السلاميات عن أغنية.. تصدر من المذياع بعض الأصوات النسائية الحادة وسط التشويش المستمر.. ينزعج صاحب النجوم:
- غيّر غيّر.. حط لنا ع الأخبار نسمع شو عم يصير بهالبلد..
- حاضر سيدي..
يدوّر حسين الشاوي إبرة المذياع كيفما اتفق.. يأتي صوت رزين لمذيعة: "صوت الإذاعة البريطانية من لندن.. إليكم أيتها السيدات والسادة نشرة الأخبار.. ثلاثون قتيلاً في سورية على يد أجهزة الأمن والجيش ومن يوصفون بالشبيحة، معظمهم في حمص، وذلك حسب ما ذكر ناشطون.... وشهود عيان يؤكدون تسيير قوافل من المدرعات والدبابات إلى جبل الزاوية في شمال البلاد..
تجفل السيارة الخضراء المبرقعة التي ما انفكت تحلم بالمضي عميقاً إلى جهة الجنوب الغربي حيث وُعدت ذات زمان، ولكنها تكابر.. تتحامل على نفسها وتحاول الاستمرار في الدرب الصاعد إلى المجهول..
يهرع صاحب النجوم:
- ما لقيت غير هي الإذاعة الخرية! لك حط ع الشام ولاه!..
- حاضر سيدي..
يسارع حسين لتغيير مكان الإبرة بتبرّم واضح.. فيما صاحب النجوم يتمتم: "كلاب وكذابين.. الله لا يوفقهن"..
بعد لأي، يأتي صوت مألوف لرجل مخضرم تعرفه السيارة الخضراء المبرقعة ذات الذاكرة الحية منذ أن دارت دواليبها لأول مرة على الأراضي السورية: "قُتل ثلاثة جنود وضابط، وجرح اثنان في كمين نصبه إرهابيون في الرستن..."..
تجفل السيارة الخضراء المبرقعة ذات الروح الدافئة.. تشعر بالاختناق.. تنسد شرايينها.. تشهق شهقة عظيمة.. وتتوقف فجأة في أوج "طلوع الثنايا"، وبالكاد يستطيع حسين أن يمنعها من التهاوي الحر إلى الخلف...
يزعق صاحب النجوم:
- العمى.. شو صار؟ ادعاس فرام! ادعاس فرام! العمى ضربها ليش حرنت؟ انزل شوف شو القصة ولك حسين.. انزل..
- حاضر سيدي..
يترجل حسين.. ويتجه مباشرة إلى غطاء المحرك ويفتحه، بينما يجري صاحب النجوم اتصالاً بأحدهم..
يحاول حسين أن يجد العطل.. يتفحص قطعاً كثيرة لا يعرف أسماء معظمها.. يدقق.. يصعد إلى السيارة الخضراء المبرقعة الميتة و"يضرب مارش" أكثر من مرة، ويترجل منها مرات عديدة قافلاً إلى المحرك الساكن، دون فائدة.. يبذل المستحيل.. ينطبح وجهه أكثر فأكثر فيما صاحب النجوم جالس في السيارة يرغي ويزبد ويلعن الله والرسل والقديسين وحمص وإدلب وسهل الحولة وجسر الشغور.. ولكن عبثاً، فالسيارة الخضراء المبرقعة ذات الملامح الكئيبة تهمد دون حراك ووجهها إلى الجهة التي لا تحب..
بعد عدة ساعات تحضر زميلتان كئيبتان للسيارة الخضراء المبرقعة المجلوطة وسط "طلوع الثنايا"، الأولى تحمل كتلة الفولاذ الكبيرة وتتجه بها رغماً عن كلتيهما إلى الشمال، والثانية تشحط زميلتها، السيارة الخضراء المبرقعة الشهيدة إلى أول مقبرة.. أما حسين الشاوي الذي تلقى، على سبيل المصادفة، خبر استشهاد أخيه في إحدى مظاهرات دير الزور وهو يحاول تشغيل سيارته الخضراء المبرقعة الحالمة.. فقد اختفى كلياً من المكان.. ومنذ ذلك الوقت لم يشاهده معظم زملائه الماضين إلى الشمال..
[email protected]
08-أيار-2021
08-أيار-2012 | |
07-نيسان-2012 | |
02-نيسان-2012 | |
31-آذار-2012 | |
25-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |