المفقودون.. والعظيمات!
خاص ألف
2012-01-07
الرؤيا العظيمةُ التي أيقظتها بسلام تام في الصبيحة التي تلت ليلة القدر، الرؤيا التي دفعت ثمنها عشر ساعات متواصلة من الأدعية والصلوات والخشوع التام، أعادت إليها كل عزيمتها التي أوهنتها أربعةُ أشهر عقيمة من الوقوف الطويل أمام الأبواب المغلقة والجدران العالية والوجوه الكالحة..
في ذلك الصباح "المبارك"، نهضت أم هيثم من رقادها القصير والدموع تغسل وجهها وعنقها وصدرها، مثلما غسلت رؤياها العظيمةُ قلبَها وروحَها.. خرجت من باب غرفتها متلهفة، ونادت بأعلى صوتها أمها وأباها وأخواتها وصغارها والجارات، وكأنما تدعو الجميع لسماع بشرى فقد معظمهم الأمل من احتمال تلقّيها..
جلس الجميع حولها ينتظرون أن تروي لهم ما رأت، الأم نصف العاجزة، والأب الثمانيني ثقيل السمع، والأخوات الثلاث، والولدان، وخمس جارات، ثم ست، ثم تسع مع بعض أزواجهن.. امتلأت المضافة كلياً، ولم يبق مكان على الإسفنجات الموزعة في أسفل الجدران لوافد جديد..
- "شفتْ، خير بالصلاة على النبي...".. تشرع أم هيثم بقص النبأ، فتجحظ العيون، وتفغر الأفواه.. يقع دبّوس من حجاب غير محكم للأخت الصغرى على صينية فناجين القهوة المرة، فيسمع الجميع رنته..
- "شفت أبو هيثم، وأخي ياسر، وأخي وليد، جايين من محل بعيد، ووجوههم عم تشع بالنور.. قرّبوا مني وسلموا عليّ وعانقوني وأعطاني كل واحد منهم كيس مسكّر، وقالوا لي: يا أم هيثم، نحنا بخير لا تخافي علينا، وانشالله راجعين بأقرب وقت.. وراحوا"..
- "خير انشالله.." يردد الجميع، وينقّل كل منهم نظره بين عيون الآخرين، ويبدأ حفل تهامس طويل.. ولا تجد أم هيثم في وجوه من حولها أية انطباعات من النوع الذي كانت تود أن تراه.. لكنها تبقى على كل حماستها المستعادة، وتهب من ساعتها لتقصد "وجهه الكريم"..
منذ ذلك اليوم في مطلع أيلول 2011، عادت أم هيثم تطرق مجدداً الأبواب كلها، دون أن تسمح هذه المرة، لأي شعور باليأس أن يغزو قلبها.. عادت لتقف عند أبواب جميع الفروع الأمنية التي طالما وقفت عندها من قبل دون جدوى، وعند أبواب قصور العدل، وعند باب السجن المركزي.. عادت للتواصل مع جميع المحامين الذين فرّغوا أنفسهم للدفاع عن المعتقلين ومتابعة شؤونهم منذ بدء الانتفاضة الشعبية، كما أنها لم تترك مفرجاً عنه إلا وسألته إن كان يعرف شيئاً عن مصير زوجها وأخويها المفقودين منذ مطلع أيار.. باعت ما تبقى من صيغتها ودفعته لمتعقبي الأخبار ولصوص المعلومات.. دفعت للحجّاب، وللحراس، ولأقارب ومعارف وأصدقاء الضباط وصف الضباط، وللمسافرين إلى الأردن، وإلى تركيا، وإلى لبنان، وللمتوجهين إلى حمص، وحماة، وإدلب.. وما تزال حتى اليوم تنتظر أن يحمل لها أحد أي خبر.. ولو حزين..
أم هيثم، المرأة السورية البسيطة الممتلئة بالحب والوفاء واليقين والأمل، ومثلها الآلاف على امتداد البلاد، ينتظرن كل يوم أن يعرفن شيئاً عن مصير الأخوة والأزواج والأبناء والآباء المفقودين.. يتعرضن في سبيل ذلك للإهانة والاستخفاف والطرد من المكاتب ومن حول الأسوار والدشم الحصينة.. يتحملن الابتزاز المادي، ويقاومن النظرات والتلميحات والتصريحات المهينة لأنوثتهن وإنسانيتهن وشرفهن ووطنيتهن.. يتمسكن رغم كل المحبطات والنذر السيئة بالأمل الواهن.. يذوين شيئاً فشيئاً، ويبقى المفقودون مفقودين..
"الدفعة الأخيرة من المعتقلين المفرج عنهم، ومن سبقوهم، تحدثوا عن تصفيات جرت في بعض أماكن الاعتقال، وعن أبطال قضوا تحت التعذيب أو بسبب الرطوبة والازدحام والبرد وسوء التغذية، وتم دفنهم في أماكن مجهولة..."، قلتُ لأم هيثم متردداً، وأردت أن أتابع، لكن أم هيثم، صرخت: "لا تكمّل أستاذ.. أبو هيثم، وياسر ووليد، بخير!! أنا متأكدة أنهم بخير، قلبي هيك عم يقول لي.." وأطلقت العنان لبكاء لم يعد ممكناً لجمه.. فلم يكن بوسعي إلا الصمت وحبس دموعي..
أم هيثم، واحدة من آلاف أو عشرات آلاف النساء اللواتي لا يردن الآن أية عواطف أو تعاطف من أحد.. ما يردنه الآن أمر واحد فقط: معرفة مصير مفقوديهن.. فالأمل جميل، بل رائع، لكنه عبء ثقيل إذا ظل معلّقاً بالاحتمالات الضعيفة.. الحزن أرحم، والحداد، حتى إن استمر إلى الأبد!!!
[email protected]
08-أيار-2021
08-أيار-2012 | |
07-نيسان-2012 | |
02-نيسان-2012 | |
31-آذار-2012 | |
25-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |