عنقاء الجراح..
خاص ألف
2012-01-14
هي ليست سيارة بالمعنى الحقيقي للكلمة.. "عنقاء الحَور" هي مجرد مجموعة من القطع المعدنية الصدئة وغير المتجانسة، نسيها عقد الستينات من القرن الماضي في طريق ريفي ما ولم يأخذها معه، ومضت السنون عليها بعد ذلك دون أن تتحول إلى الصهر أو إلى المتحف.. لكن الإطارات المنفوخة التي تحملها، ومحركها الذي يعن بألم في أحشائها، ليسا السببين الوحيدين لبقائها قيد الخدمة، بل إنه سائقها، الأبكم غالباً، "أبو عبدو" الذي توجد من التضاريس في وجهه ما يكفي ليعرف المرء أكثر من ستين عاماً من عمر البلاد وتفاصيل حياة أبنائها..
أما الوصول إلى تلك المزرعة المنعزلة في أقصى عمق "الغوطة الشرقية" على متن "عنقاء الحور"، فهو بلا شك، أشبه بعملية انتحارية ذات إيقاع بطيء وثقيل.. أكثر من ساعتين والسيارة المهترئة التي انطلقت من دمشق بُعيد العصر وهي تحمل خمسة مجانين، تتحول من شارع إلى شارع، ومن مسرب إلى مسرب، ومن درب موحل ومحفّر إلى درب نصف معبد، متجنبة شبكة لا نهائية من الحواجز الثابتة والمتحركة ونقاط التفتيش الأمنية والعسكرية.. ساعيةً نحو مكان بدا بلوغه وكأنه رحلة لا نهائية أو سفر إلى الجحيم.
في المقعدين الأماميين، جلس أبو عبدو يدخن دون توقف، وبجانبه أبو ضرار، الشاب العشريني الوسيم صاحب الصوت الأجش الصارم المتناقض كلياً مع نعومة ملامح وجهه القمحي.. أما في الخلف فقد جلس الطبيبان الثلاثينيان (ش) و(ح) اللذان لم يتوقفا عن معالجة جرحى الاحتجاجات منذ تفجرها، وبجوارهما صديقهما (الأستاذ) الذي لم يتعدّ دوره منذ تعرف إليهما في أيار الفائت، الاتصال بهما بشكل أسبوعي تقريباً، والطلب منهما كل مرة، ودون مقدمات، القيام بمهمة إسعافية جديدة!
ظروف الرحلة منعت الرجال الخمسة من تبادل أي حديث من النوع الذي يحرق المسافرون به عادةً الوقت، ولم يكن يقطع الصمت المخيم داخل السيارة ووحشة الظلمة الدامسة خارجها، إلا رنين جوال أبي ضرار كل خمس دقائق تقريباً، وورود تعليمات جديدة عبره من سيارة استطلاع تسير في طريق ما أمامهما، وكان أبو ضرار يتلقى الإرشادات ويعطي بدوره إيعازات إيمائية سريعة لـ"أبو عبدو"، إما بضرورة زيادة سرعته، أو ليترك طريقاً ويسلك أخرى.. وأحياناً كان الخطر يزداد بشدة تفضحها عينا أبي ضرار، فتتوقف السيارة في مكانها بإشارة منه وتطفئ أضواءها، وأحياناً تبطئ من سرعتها وكأنها تسير في حقل ألغام، أو تدخل في "زاروبة" لا تصلح حتى لعبور الهواء..
أخيراً، وبعد أن كادت السيارة وأمعاء راكبيها تتمزق من كثر "الطجطجة"، توقفت "عنقاء الحور" في مكان منعزل ومظلم تماماً، وترجل منها أبو عبدو واتجه إلى غطاء محركها ففتحه، وكأنه ينفذ تعليمات حفظها عن ظهر قلب، وما هي إلا دقائق قليلة حتى ظهر ضوء مصباح يدوي من جهة ما، وسُمعت أصوات خطوات تقترب من السيارة، فترجل أبو ضرار من مقعده تاركاً الباب الأمامي مفتوحاً، وسار أماماً باتجاه الضوء، وما لبث أن عاد ومعه بضعة رجال بوجوه ابتلعت الظلمة ملامحها، فحيوا المجموعة:
- الحمد لله على السلامة يا أفاضل.. الله محيّيكم.. تفضلوا..
ترجل الجميع، وساروا خلف أبي ضرار والرجال، بينما عاد أبو عبدو إلى السيارة المتوقفة بعد أن أنزل غطاء المحرك، وجلس فيها وأشعل سيجارة جديدة..
خمس دقائق من المشي على تراب لزج وموحل، كانت كفيلة بجعل الأحذية عبئاً حقيقياً على لابسيها، ولولا أن انتهت رحلة السير سريعاً على أرضية بيتونية، لابتلعت الأرض الأحذية والأرجل، وربما الأشخاص أيضاً..
بعد قليل، دفع أحد الرجال باباً خشبياً ضخماً، وتنحى جانباً، فدخل الجميع، فتبعهم وأغلق الباب، لتظهر لأول مرة ملامح الكل للكل تحت ضوء "لمبة" وحيدة متدلية من السقف العالي لمكان واسع خال شبه مهجور، ثم قام رجل آخر بدفع باب حديدي في ركن جانبي، فتكشّف المشهد كله.. المشهد السوري برمّته.. أكثر من عشرين شاباً موزعين على محيط المكان، بعضهم ممدد، وبعضهم جالس، وبعضهم منثن على نفسه.. ورائحة الدم تملأ الهواء، والأنين المكتوم يشبه حالة شغب ماكرة لطلاب صف إعدادي في حصة القومية..
لحظة صدمة لابد منها تنتاب الضيوف.. ثم تسير الأمور كما كانت تسير في كل "فزعة" إسعافية منذ عدة شهور.. يبادر طبيب محلي ويعرّف عن مهنته، ويسارع بشرح الحالات الخطيرة الموجودة، فيفتح الطبيبان الوافدان (ش) و(ح) حقيبتيهما المليئتين بعدة الجراحة والمواد الطبية، ويشرعان بالعمل.
يقف الأستاذ مع أحد الرجال ويراقب الجرحى.. هذا دخلت رصاصة من بطنه وخرجت من ظهره، وذاك دخلت من خده وخرجت من فمه محطمة خمس أسنان، وآخر سكنت رصاصة في كتفه، وبقربه فتى دون السادسة عشر دخلت شظية مسمارية في عينه، يحده رجل أربعيني غارت رصاصة قرب قلبه.. وآخر وآخر وآخر.. هذا مصاب يده، وهذا في أعلى ساقه، وهذا في عنقه...
يقطع الرجل صمت الكلام محدثاً الأستاذ:
- اليوم كانوا متوحشين الله لا يوفقهم.. رصاص وقنابل مسمارية وقنص.. استشهد خمسة شباب كل واحد مثل الرمح.. كل واحد أحلى من عود الريحان..
يأتي صوت أذان العشاء من جامع بعيد.. يهب بعض الرجال الواقفين، وبعض الجرحى من أصحاب الإصابات الخفيفة، إلى حائط اللبن، ويتيممون جماعة، ثم يصلون جماعة، بينما الطبيبان (ش) و(ح) ومعهم الطبيب المحلي، ينهمكون في إيقاف نزيف جريح، وإخراج رصاصة من جسد آخر، وقطب جراح ثالث، وتضميد جراح رابع، وتخدير خامس، وإغماض عيني سادس مع نظرات منكسرة...
يقف "الأستاذ" جانباً مطأطئاً رأسه.. يسأل مجدداً عن هويته في هذا المكان الذي يختصر البلاد.. هل هو "أستاذ" حقاً؟ ما معنى أستاذ أو رفيق أو مناضل في حضرة الشهداء والجرحى و"منهم من ينتظر"؟ هل هو سوري؟ هل هو ثوري كما ظل يزعم سنوات طويلة أمام النساء اللواتي يود مضاجعتهن والشباب الباحثين عن قدوة ورمز؟ هل؟ وهل؟ وهل؟... تنقطع الكهرباء فجأة، فيشعل الرجال الشموع والفوانيس بسرعة مذهلة، بينما يغرق "الأستاذ" في ظلمة روحه وغياهب الأسئلة...
14/1/2012
[email protected]
08-أيار-2021
08-أيار-2012 | |
07-نيسان-2012 | |
02-نيسان-2012 | |
31-آذار-2012 | |
25-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |