عن رواية "الوصمة البشرية" مقدمة المترجمة
خاص ألف
2012-01-24
هذا الروائيّ
نحن بصدد كاتبٍ داهية. وروايةٍ داهية. أما الكاتبُ، فيعتبره النقّادُ شيخَ الرواية الأمريكية المعاصرة. "فيليب روث" Philip Milton Roth، من مواليد عام 1933، مدينة نيوآرك بولاية نيوجيرسي الأمريكية. بدأ نجمُه في السطوع عام 1959 مع نوفيللاه الأولى "وداعًا كولمبوس"، التي فازت بجائزة الكتاب الوطني، وتمثّل بورتريه فاضحًا وساخرًا لحياة الأمريكان اليهود. ثم ذاعت شهرتُه على نحو فائق مع صدور رواية "شكوى بورتنوي" عام 1969، تلك الرواية الفضائحية الساخرة التي حققت مبيعات جنونية. بعدها اعتادت كتبُه، التي تقارب الثلاثين كتابًا، أن تحصد جوائزَ عديدةً ومتكررة، قلّما يفوز بها كاتبٌ أكثرَ من مرة في حياته. منها جائزة فوكنر الرفيعة التي حصدها مراتٍ ثلاثًا، وهي التي فازت بها روايتنا هذه "الوصمة البشرية" 2001، وكذلك جائزة سميث البريطانية، اللتين من أجلهما استحقت الروايةُ الترجمةَ إلى العربية، ضمن سلسلة الجوائز، بالهيئة المصرية العامة للكتاب. ويعدُّ "فيليب روث" أكثر روائيي أمريكا المعاصرين حضورًا ونفاذًا إلى القارئ لاعتبارات عديدة، منها المضمونيّ ومنها الأسلوبيّ.
مضمونيًّا: من حيث جسارته الفائقة في طرح أمور إشكالية كبرى مثل الدين والسياسة والجنس. ببساطة مَن يحكي عن فنجان قهوة تناوله في الصباح مع مطالعة الجريدة، يتناول الكاتبُ أهراماتِ التابوو الثلاثةَ تلك، دون رهبة ولا أقنعة. تلك الخطوطُ الحمراء التي يرهبها الكتّابُ في بلادنا، ويتحلّون بالتقية الرمزية والأسلوبية حين يقاربونها، مثلما يتحسَّس رجالُ الدولة ومشايخُ الدين مسدساتهم، كلما هَمَّ كاتبٌ أن يُشارفها. يغزلُ "فيليب روث" نسيجَه الروائيَّ بخيوط الثقافيّ والجماليّ والحكائيّ، على نحو تهكميّ فريد، يجعلك تلوكُ العلكةَ المُرَّةَ وأنت تبتسم، فيما مرارتُها تسري في أعماقك. كذلك نلمح تفرُّدَ "روث" في لعبة ابتكار "السيرة الذاتية الزائفة". فيقدّم تاريخًا شخصيًّا مزوّرًا، عبر شخصية الراوية "ناثان زوكرمان"، الذي يظهر كثيرًا في رواياته. مثلما فعل عام 1993 في رواية "عملية شايلوك"، حيث يعترف أنه كان جاسوسًا إسرائيليًّا في اليونان، ثم يضحك مع نهاية الكتاب وهو يعلن أن اعترافه كان محضَ كذبة. كذلك الحالُ هنا، في هذه الرواية؛ قدّم كولمن لأبنائه سيرةَ حياة ملفّقة عن أصوله وأصول أجداده، كي يحفظ سرَّه الذي أخفاه عنهم طيلة حياته، ويجعلهم يعيشون معه أكذوبةَ أنه من أصول بيضاء.
أسلوبيًّا: والكلامُ فيها يطول. بدءًا باللغة التي تجاورُ بين اللغة المركبة المثقفة المتعالية، وبين اللغة الفجّة التي تقترب من الإباحية، التي تصل أحيانًا إلى حدّ البذاءة، خاصًة حين يأتي الكلامُ في الحوار على لسان السوقة والرعاع من البشر. وهنا يأتي بنا الحديثُ عن هذه الرواية التي نحن بصددها، والتي أعترفُ أنها أرهقتني كثيرًا في الترجمة بسبب ذلك المزيج اللغوي، الذي، أيضًا، يسقط كثيرًا في الدارجة الأمريكية السوقية، ولهجة اليانكي. المعادلةُ الصعبة في الترجمة بعامة، هي محاولة تحقيق أكبر قدر من الأمانة في النقل، مع الحفاظ على أجرومية اللغة المستضيفة المنقول إليها النص، وهي العربية هنا، إضافة إلى احترام أسلوبية الكاتب، لأن الكاتبَ أسلوبٌ، وصوغٌ، وليس فكرًا ومضمونًا، وفقط. أما في حال التصدي لأعمال "فيليب روث"، فيُضاف إلى معادلة الترجمة تحقيق نقيضين لا يجتمعان: أمانةُ الترجمة، واللغةُ الرفيعة الرصين. ولابد، هنا، أن تجور إحداهما على الأخرى. وكانت اللعبةُ الخطرة هنا، والتحدّي الذي أرهقني، هو محاولةُ الموازنة بحيث لا يحدث هذا الجور، إلا في أضيق الحدود. وكان أن اخترتُ أن أنتصرَ للأمانة ولأسلوبية الكاتب، وفي حدود ما أمكنني من رصانة اللغة، حيث بعض المفردات التي كتبها "روث" من بالغ الصعوبة وضعها كما هي في النسخة العربية، لكنني اجتهدتُ أن أجعلها من الوضوح بحيث لن يغيب عن القارئ ماذا كانت في أصلها الإنجليزيّ.
هذه الرواية
عنوان الرواية الأصلي بالإنجليزية هو: The Human Stain. وبدايةً، أرجو أن ينتبه القارئ إلى علامات الترقيم، وأن يولي اهتمامًا خاصًا للجمل الاعتراضية، الموضوعة بين شرطتين (-....-)، لأن تلك الجملَ أفكارٌ وليدة عن التداعي الحُرّ وتيار الوعي. فعلى القارئ بعدما ينتهي من قراءة الجملة الاعتراضية، أن يعيد وصل طرفي الكلام: ما قبل الشَّرطة الأولى، وما بعد الشرطة الثانية، حتى يستقيم السياق السرديّ، مهما طالت الجملةُ الاعتراضية. لأن الجمل السردية في الرواية أحيانًا تكون بالغة الطول، بسبب الفقرات الاعتراضية المطوّلة. كما أنه في بعض الأحيان كان يُهمل وضع علامات ترقيم أساسية في الجملة الأصلية، كلون من استرسال الحكي، مثل أبناء تيار الوعي، كما كان يفعل فوكنر بإغفاله عمدًا كل علامات الترقيم. وكنتُ عند اختياره في هذا فأغفلتُ ما أغفل، احترامًا لأسلوبيته، اللهم حين كنتُ أرى أن المعنى سيلتبس. وهنا سأطرحُ بعض التيمات الأسلوبية، والحِيَل الفنية في هذه الرواية، ما قد يساعد القارئَ على الدخول إلى عالمها بيسر فتزيد جرعةُ استمتاعه بها.
لعبةُ الكرِّ والفرِّ في بناء الشخصية
يلعب "فيليب روث" مع القارئ لعبةً سيكولوجية مثيرة. لعبة الكرّ والفرّ في التأثير النفسي على القارئ من خلال بناء شخوص الرواية. فربما، في بدء السرد، يجعلك تمقت شخصيةً ما، لأنها خِصمُ البطل، الذي عادةً، في الإبداع القصصي كافة، ما يجعله المؤلفُ محلَّ تعاطف القارئ، وإن كان مجرمًا. وبعدما تمتلئ، أنت القارئ، بُغضًا لتلك الشخصية التي تحاول تدمير بطل روايتك، ينقلب السردُ في الفصول المتأخرة ليفتح لك كوّةً تتلصص عبرها على أسرار حياة تلك الشخصية البغيضة، فيأخذكُ التعاطفُ معها، بل ربما تنال احترامك وتقديرك، فتقع في الحيرة، وهو الشَّرَك الذي رسمه لك سلفًا "فيليب روث": أيُّ جانبٍ أختار؟ ومع مَن أنحازُ ضدَّ مَن؟ هنا تكمن الرسالةُ الفلسفية الفريدة: ليس من خير مطلق، أو شرّ مطلق. والثالثُ المرفوع حاضرٌ دائمًا بقوة في دراما الحياة. الكلُّ يحملُ دوافعَه. حتى القاتل بوسعك أن تتعاطف معه لو أحسنتَ الإنصاتَ إلى أوجاعه، ربما. مثل هذا سيحدث لك مع مارك، الابن العاقّ الذي عذّب والدَه طوال حياته، سوف تشفقُ عليه لحظةَ وقوفه منهارًا على ضريح أبيه. كذلك دُلفين روكس، رئيسة قسم اللغة والآداب بالجامعة، التي نصبتِ الشِّراكَ المنحطّة لبطل الرواية كولمن سيلك، قد تأخذك بها لحظةُ تعاطف، واحترام، حين تتعرف على أزمتها الخاصة، وكذلك لِس فيرلي، الزوجُ السابق لفونيا فيرلي، بطلة العمل، المجنّد في حرب فيتنام. سنكرهه كرجل ساديّ يضرب زوجتَه بماسورة حديدية، ونمقته كقاتل غليظ القلب، لكنْ سندمع من أجله حين يقفُ عند جدار الجنديّ المجهول لضحايا فيتنام، ليناجي رفقاءه الموتى.
لعبةُ الضمائر
يمارس "فيليب روث" في الرواية حيلةً أسلوبية لغوية مبتكرة. يلعب بالضمائر في غير سياقاتها المعروفة. يمزّق الخيطَ الوثيق الذي يربط بين: الضمير، والعائد عليه. معتبرًا "الضميرَ"، كيانًا منفصلاً قائمًا بذاته، حتى وإن كان ضمير المتكلم (أنا-نحن). فيقول مثلا: "‘أنا’ جزءٌ من ‘نحن’، بدلاً من قوله: "أنا جزءٌ منّا". وهو بهذا يضع الراويةَ/ المتكلمَ، في خانة المراقِب من بعيد، حتى أنه ينفصل عن نفسه ويتكلم عن ضميره (أنا)، كأنما يتحدث عن شخص آخر، ينتمي إلى مجموعة لا ينتمي إليها (نحن). بينما من خلال سرد الرواية سنفهم أنه يقصد بضمير (نحن)، الزنوجَ السود، فيما يشير إلى البيض بضمير (هُم)، بينما (أنا) هي الذاتُ الضائعة بين هُويتين وعِرقين وجنسين، كونه يحملُ بشرةً بيضاء، وهو ابنٌ لأسرة ملونة. بل وأحيانًا يضيفُ للضمير "ال" التعريف، فتصير: النحن، الهُم، الأنا، إلخ. مثال: "لا تقدر أن تترك الـ"هُم" الكبيرة تفرض عليك تعصّبَها"- "وكلُّ شيء تريد تلك الـ"نحن" أن تراكمه فوق رأسك." إلخ. ذلك النوع من الصوغ الكِنائيّ المجازي، ليس وحسب غريبًا على اللغة العربية، بل غريبٌ أيضًا في الإنجليزية، خاصةً وأنه، لجرأته، وضع تلك الصياغات دون أقواس توضيحية، تلك التي وضعتها أنا في الترجمة العربية كيلا يلتبس المعنى، وفي نفس الوقت لأحافظ على لعبته اللغوية الجسور. تلك اللعبة ربما هشّمت الأجروميةَ الصرفية، لكنها كانت ممتازة في التعبير بعمق عن أزمة ذلك الرجل الواقف في حيرة على خيط دقيق مرتبك مهتزٍّ بين السواد والبياض، فاقد الهوية، غير منتمٍ، وناقم.
وفي بعض المواضع كانت الترجمةُ العربية الدقيقة على جانب عظيم من الصعوبة. فتكون الجملةُ في الأصل الإنجليزي أكثرَ بلاغةً وجمالاً، لكن الترجمةَ إلى العربية لابد أفقدتها قدرًا من بلاغتها، ولا حيلةَ لي في ذلك. كما في الفصل الأخير في عبارة:
to divine gnostically, my unpardonable theyness
فمفردة theyness، كلمةٌ منحوتةٌ، لا وجود لها في الإنجليزية، تتكون من الضمير they، هُم + اللاحقة ness، التي تحوّل الصفةَ إلى مصدر. يودُّ المؤلفُ هنا أن يحوّل الضمير (هُم) إلى مصدر. وهو ما لم أقدر عليه في العربية. فترجمتها هكذا: "لكي يخمِّن، مذهبيًّا وروحيًّا، مدى كوني "هُم" التي لا تُغتفر."
كذلك في الفصل الأول نجد هذا التعبير الشائع في الإنجليزية:
Don’t sweetheart me!
وهنا حوّل الاسم sweetheart إلى فعل. وهذا الاشتقاق البلاغي "المنحوت" ليس له شبيه بالعربية. فلم أجد بُدًّا من ترجمتها هكذا: "لا تنادِني بـ يا حبيبتي!"
كذلك في جملة كهذه:
And earn her living how?
هذا التركيب غير مألوف في الإنجليزية، فمن الطبيعي أن يقول:
And how to earn her living?
كان من اليسير هنا أن أنتصر للأجرومية العربية وأترجمها هكذا: "وكيف تكسبُ قوتها؟" على أن هذا سوف يكون على حساب ما أراده الكاتبُ من أسلوبية تخدم فكرةَ التداعي الحُرّ للأفكار. حيث دلفين روكس تفكر، وحزنُ الوجود يعتمرها، بعدما ارتكبتْ خطأ سيدمر سمعتَها كسيدة فرنسية لها مكانتها العلمية والاجتماعية كبروفيسور ورئيسة قسم. كيف ستنجو من الفضيحة التي ستلاحقها في أمريكا، وإلى أي البلدان تحملُ باسبورها وتهرب؟ ومن الطبيعي هنا أن يتشظّى البناءُ النحويّ والصرفيّ للجملة، لأنه لا ينقل لنا كلامَها "المنطوقَ" بلسانها، فهي صامتةٌ تفكر، بل ينقل لنا الكاتبُ صوتَ عقلها وهي تفكر. ينقل لنا "التفكيرَ الخام" قبل أن يتشكّل في كلمات. وعمليةُ التفكير تلك، حار العلماءُ في توصيفها ومحاولة تعيير اللغة التي يفكر بها الدماغُ لحظةَ التفكير. لذلك آثرتُ أن أنقلها كما أرادها المؤلف، ولو على حساب سلامة البناء اللغويّ بالعربية. ترجمتُها هكذا: "تكسبُ قوتَها كيف؟" بنفس المنطق ترجمتُ: "تبحثُ عن ماذا؟"، ولم أعد صياغتَها هكذا: "عمّ تبحث؟" إلخ.
وفي الفصل الأخير حينما ماتت فونيا وتم نشر خبر موتها في إعلان بثّوه على الشبكة العنكبوتية، معنونين الإيميل هذا:
Death of a faunia
من الصعب ترجمة العبارةَ للعربية بدقة. فالأعلامُ من أسماء الناس لابد أن تبدأ في الإنجليزية بحروف كبيرة Capital letters، ولا يسبقها حرف التنكير a. وهو ما لم يحدث في العبارة. حيث تم تنكير اسم "فونيا"؛ كأنها "شيءٌ" وليست إنسانًا، وكرّس هذا التوجهَ عدمُ تكبير أول حروفها. فكان لابد أن تكتب العبارة هكذا Death of Faunia. وهكذا.
تعدّد لغات الخطاب
ستجد في هذه الرواية تباينًا في مستويات الحوار، حسب الشخص المتكلم، يتناوب بين اللغة الأدبية الراقية؛ حين يكون المتحدثُ شخصًا رفيع التعليم مثل بروفيسور "كولمن سيلك"، و"دلفين روكس"، وسواهما من هيئة التدريس بالجامعة. وبين اللغة الفصحى المتعالية؛ كما في لغة الأب "سيلك"، ذاك المفتون باللغة الإنجليزية الرفيعة بوصفها لغة شكسبير وشوسر. وبين اللغة البرجوازية المتوسطة؛ حين تتكلم الأمُّ الممرضةُ جلاديس، أو الشقيقةُ المعلّمة "إرنستين". وبين اللغة المبتذلة الدارجة السوقية التي تنحو نحو البذاءة والإباحية؛ حين تتكلم "فونيا فيرلي" أو زوجها السابق "لستر فيرلي". وأما الطاقةُ الصوتية التي تحملها الكلمات أحيانًا، من غضب، أو فرح، أو نشوة، أو اندهاش، أو هتاف عالي الصوت، إلخ، فقد ميّزها "روث" بالحروف الثقيلة، أو المائلة، أو الحروف الكبيرة Capital letters، وقد التزمتُ في ترجمتي العربية بما فعل المؤلف.
ملامحُ الرواية
هذه الروايةُ غنيّةٌ بخيوط متشابكة من الملامح الإنسانية العديدة. بدايةً، نرصد ملمحَ "الهُويّة". ليس البحث عن هوية، مثلما في رواية "الطريق" لنجيب محفوظ مثلاً، بل على النقيض من ذلك، هنا ملمحُ رفض هُوية، واختيار أخرى. كذلك ملمحُ "الطبقية". خاصةً حين نعاين انفجار "فونيا" بعدما قرأ لها "كولمن" في الجريدة أن "مونيكا ليونيسكي" سوف تقلُّ فرصُها في الحصول على وظيفة جيدة في نيويورك بعد فضيحتها مع "بيل كلينتون". فتصرخ "فونيا" وتقول إنها لا تكترث بمونيكا لأن مونيكا لا تكترثُ بها حين ينكسر ظهرها وهي تحلب الأبقار، وحين تنظف الرَّوَثَ في الجامعة إلخ. ثم تتكلم عن امتيازات أزمة كولمن ورفاه مشاكله، في مقابل حقيقية أزماتها وبشاعتها، من موت طفليها وضرب زوجها لها وفقرها واضطرارها للعمل بأكثر من وظيفة متدنية في آن، إلخ. ملمحٌ "إيروتيكيّ". حيث تنتشر الحكايا الجنسية على نحو مباشر وصريح يقتربُ من الفجاجة في مجمل أرجاء الرواية. ملمحٌ "فلسفيّ". حين يتأمل "كولمن" كيف تحاكي مشاكلُ البشر مشاكلَ آلهة الإغريق في الميثولوجيا التي يُدّرسها لطلابه، والعِبَر من ورائها. كذلك طرح الرواية فلسفة كونديرا والسفسطائيين، إلخ. ملمحٌ "إنسانيّ" مثلما يتجلى في الحوار الموجع بين كولمن وأمّه وهو يخبرها بقراره أن يتبرأ من الأسرة ليتزوج من فتاة بيضاء. وكذلك كما نلمس في أهوال حرب فيتنام وأثرها على المواطن الأمريكي المجند والمدنيّ، حتى ليحار القارئُ هل يتعاطف مع الجنديّ الأمريكيّ المعتدي، أم مع المواطن الفيتناميّ المعتدَى عليه. ملمحٌ "سياسيّ"، إذْ تتعرضُ الروايةُ لتاريخ أمريكا الاجتماعيّ والسياسيّ، فتنتقده وتنقضه. تدخل الروايةُ في خبايا البيت الأبيض، وتتلصص على فضائح الرؤساء، منذ نيكسون وحتى كلينتون، وتشرِّح خبايا اليهود في أمريكا. ملمحٌ "نسويّ"؛ حين تسخر "دلفين روكس" من أساتذة جامعة أثينا الذين يُفاخرون بمساعدة زوجاتهم في الأعباء المنزلية، وترى في هذا التفاخر لونًا من التفاهة والفظاظة والقِحة غير المحتملة. وهم من أسمتهم: "ذوو الحفّاضات". كذلك ثمة ملمح "شكلانيّ" أو انتقاد للشكلانية، حين تسخر من أولئك الكتّاب المدرّسين بالجامعة الذين يتأنقون في ملبسهم حدَّ الهوس بالشكل، ممن أطلقت عليهم لقب: "ذوو القبعات". ملمحٌ "عنصريّ"، وهو ملمح الرواية الرئيس، حيث أخفى "كولمن سيلك" عِرقَه الأسودَ، وزعم أنه أبيض فرارًا من تلك "الوصمة البشرية" المهينة، من وجهة نظرة. كذلك في المساومة الرخيصة التي حاول الطبيبُ اليهودي إتمامها مع والد كولمن، لكي يجبر ابنَه الملوّن على تعمّد الإخفاق في الامتحان لينزل ترتيبُه من الأول إلى الثاني، فيتفوق عليه ابنُ الطبيب الأبيض. أيضًا ثمة ملمحٌ "رمزيّ"، حينما اختار مستر سيلك أن يسمي أبناءه بأسماء من شخوص رواية شكسبير "يوليوس قيصر"، وكما أظنُّ، فإن تلك الأسماءَ تحمل دلالات رمزية ذات مغزى، ولم يضعها فيليب روث في روايته اعتباطًا. حيث والتر، الابن الأكبر، كان هو فارسَ الأسرة النبيل مثلما كان أنطونيو. وكولمن كان الابنَ الذي خان عِرقَه وجنسه الأسود مثلما خان بروتس أستاذَه قيصر. أما إرنستين فكانت الابنة المخلصةَ لأسرتها وأيضًا لشقيقها المنبوذ كولمن مثلما أخلصت كالبورنيا لزوجها قيصر. وكذلك ثمة ملمحٌ "معرفيّ" وهنا يجب أن نتكلم عن أحد المعالم المميزة لـ"فيليب روث"، كروائيّ لا يمرُّ على القشور بل يخترق أعماقَ الموضوعات حتى النخاع. يُفصِّلُ ويشرحُ ويستفيضُ، فيما يمكن أن يمرَّ عليه كاتبٌ آخر مرورَ العابرين. فمثلا حين يشرح عملَ "فونيا فيرلي" في عملية حَلْب الأبقار، سيحكي عن تفاصيل العملية حتى يكون بوسع القارئ أن يقوم بحليب بقرة بعد الانتهاء من قراءة الرواية. كذلك الأمر حين يتحدث عن الملاكمة وأسرارها وفنونها. ونفس الحال في عالم الإيروتيكا، وصعوبات تعليم الأطفال المتعثرين في القراءة، وطقوس الجنازة على الطريقة اليهودية، وجدار شهداء حرب فيتنام من الأمريكان في واشنطن، وعالم الغربان وأنواعها، وطبعًا سيفتح لنا كوّةً واسعة ليطّل منها القارئ على الميثولوجيا الإغريقية الفاتنة، وهلم جرّا. كذلك الكلام عن أعلام الأدب والفلسفة والسياسة والفن. عشرات الأسماء. وهنا أرجو ألا ينزعج القارئ من كثرة الهوامش التي بثثتُها في ذيل الصفحات. ذاك أن الرواية موجهةٌ بالأساس للقارئ الأمريكي المُطّلع على الشأن الأمريكيّ، وسواه مما قد يغيب عن القارئ العربي. لذلك ارتأيتُ أن أزوّده بها كي تكتملَ متعتُه بالقراءة. بعضها هوامشُ تخصّ أعلامًا في حقل السياسية الأمريكية، أو أمورًا لها علاقة بالميثولوجيا الإغريقية، مادام بطلُ الرواية "كولمن سيلك" بروفيسور في الكلاسيكيات اليونانية القديمة، وبعضها هوامشُ لها علاقةٌ بأعلام أوروبيين في دنيا السياسة أو الأدب أو الفن، وبعضها هوامشُ رأيتُ أنها قد تزيل بعض التباس السرد الروائي، وهلم جرّا. وهي هوامشُ استخرجت معظمها من موسوعات عالمية موثّقة على رأسها موسوعة بريتينيكا الشهيرة، وأردفتُ كلَّ هامش برمز (المترجمة)، لكي يعرف القارئُ أن تلك الملحوظة هي تدّخلُ المترجمة، ولم يكتبها المؤلفُ في متن روايته.
ثم يأتي، داخل هذا النسيج الكثيف من الواقعية الفجّة، خيطٌ شفيف من الفانتازيا حين تنصَّت "ناثان زوكرمان" على صديقه كولمن داخل قبره، وهو يحاور حبيبتَه "فونيا" التي ترقد جواره في القبر. كذلك يُبرز "فيليب روث" ريشتَه التصويرية الفائقة حين يصف حقولَ الثلوج في نهاية الرواية عبر لغة شعرية شديدة العذوبة، تنقض ما قبلها من لغة مباشرة فجة.
وفي الأخير، يحقُّ الحقُّ أن أشكر الصديقة المبدعة د. سهير المصادفة لأنها اختارت أن تمنحني متعةَ، ومشقّةَ، ترجمة هذا العمل الداهية المُربك، مثلما منحتني من قبل متعة ترجمة الرواية العذبة "نصفُ شمس صفراء" للروائية النيجيرية الجميلة تشيمامندا نجوزي آديتشي. كما أشكر الصديق المبدع جون ريفنسكروفت John Ravenscroft، الروائي البريطانيّ، الذي سبق وترجمتُ له مجموعته القصصية "قتلُ الأرانب"، إذ استشرتُه غيرَ مرة، حين كانت تلتبسُ عليَّ مفردةٌ أو تعبيرٌ أمريكيٌّ دارج، رغم أنه بريطانيّ، ويعلم القارئُ الهوّة الواسعةَ بين البريطانية والأمريكية. كما أشكر القارئ الذي سيتجشم عناءَ قراءة هذه الرواية الصعبة، على أنني أعدُه بقدر وافر من المتعة والمعرفة.
واللهُ والجمالُ من وراء القصد.
فاطمة ناعوت
القاهرة، ديسمبر 2010
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |