عصفور النيل اللي طار
2012-01-25
كأنما يغزل كلماته «الشحيحةَ» على نول دقيق. بتؤدة ومثابرة لا تعرفها إلا بانيلوب الإغريقية التى لا تودُّ لغزلها أن يكتمل، كيلا تنقضَ عهدها مع أودوسيوس. لهذا ليس مدهشًا أن يستغرق تسعَ سنوات فى كتابة روايته البديعة «مالك الحزين»، وليس مدهشًا أيضًا أن تتكئ شهرة «إبراهيم أصلان» المدوّية على تسعة أعمال فقط! هى كلُّ ما منحنا من جمال فى حياته التى انتهت بالأمس.
أصعب مَن يُكتب عنهم! إنْ على المستوى الإبداعىّ، أو الإنسانى. فأما الإبداعىّ، فأسلوبه السردىّ عصىٌّ على التصنيف، إذا ما حملنا حقيبة «أبوقراط» النقدية ذات المباضع الجاهزة لتشريح أى نصّ أدبى. يلزم إبداعَ أصلان مبضعٌ خاص يليق بحساسية فى الكتابة لم تعرفها المدارسُ الفنية التقليدية. حتى على مستوى القراءة، لن تجد فى سرد أصلان «عبارات»، بوسعك أن تحفظها وترددها كأقوال مأثورة. عبقريته تكمن فى التفاصيل الصغيرة، فى الأحداث البسيطة التى تحدث لبشر بسطاء فتُشكّل أزماتٍ وجودية كبرى، فى «الحال» المزاجية والشعورية التى يتركك عليها النصُّ، دون أن تتمكن من «القبض» على مكمن الفرادة التى تراوغ كما يروغ الذهبُ السائل قبل أسره وصوْغه فى سبائك.
اقرأ قصة قصيرة لأصلان، ولن تستطيع إكمال الحكاية فى جلسة واحدة. لابد أن تتوقف عن القراءة بين الفقرة والفقرة لتوقف شلال العذوبة المنهمر عليك من كل صوب. هذا ما يحدث معى، واعترفتُ به فى مقال قديم عنوانه «خِلسة المختلس»، تحدثتُ فيه عن القراءة بوصفها فنًّا صعبًا يفوق فنَّ الكتابة عسرًا.
وأما على المستوى الإنسانى فإبراهيم أصلان حالة إنسانية فريدة لا يجود بها الجنسُ البشرى كثيرًا. لم يكن بحاجة إلى الموت لكى يزداد فى عيوننا نُبلاً، بعدما ترتسم فوق جبهته تلك الهالةُ التى نتوّج بها موتانا فنراهم قديسين وإن كانوا عكس ذلك. كلُّ مَن عرف أصلان شهد بتلك الأناقة الروحية التى جعلت منه نبيلاً من البسطاء. يرمى بصنارته فى النيل فتصطادُ عصفورًا لا سمكًا. لشدّ ما يشبه طائرَ «مالك الحزين»، الذى منح اسمه لروايته التى شاهدناها فيلمًا عظيمًا: «الكيت كات»، إخراج «داود عبدالسيد». طائر البلشون الأبيض، لا يصدحُ بأعذب تغريده إلا وهو يتألم مجروحًا نازفًا دمَه.
يقف فوق النهر مالكًا ناصيته حاميًا مجراه. فإن جفّ النهرُ، لا يغادره البلشون كما الطيور الباحثة عن الماء، بل يظلُّ واقفًا على طلله النهرىّ، يُدثّره الحزنُ الذى يفتُّ فى جسده النحيل فيزدادُ نحولاً. حتى إذا ما عاد القطرُ وتدفق الماءُ فى المجرى، عادت إليه حيويته وانتعش. هكذا كان أصلان، يغرّد فى حزن نبيل نغماته السرديةَ فى انتظار أن يتدفق الماءُ فى شريان مصرَ المُتعَب، ولما عرف الرَّىُّ طريقَه إلى قلب مصر، فى ثورة يناير، انتعش طائرُ أصلان وقرر الطيران إلى حيث تطير الطيور ولا تعود أبدًا.
جميلٌ أن نجوتَ يا أصلان من العبارة الركيكة: «رحل بعد صراع مع المرض». فالمرضُ لا يصارعه إلا متهافتٌ طامعٌ فى احتساء الكوب حتى آخره. وهو ما لا يفعله النبلاءُ مثلك. لهذا اخترتَ أن تطير سريعًا وخفيفًا كما طائر يصبو نحو الفردوس متحرِّرًا من أسر الأرض الثقيلة. وليس جميلاً أن تختارَ أن تطيرَ وأنا خارج الوطن، كى تفوّت علىّ فرصة أن أقبّل يدك الشريفة التى رفضتْ أن تصافح الطغاة، فيما كان يتهافتُ الناسُ على تقبيلها. حلِّقْ حرًّا أيها الحرُّ الأنيق، وسلامٌ عليك.
[email protected]
عن المصري اليوم
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |