تدجين المعرفة .. الصنمية الفكرية
خاص ألف
2012-03-24
-1- الفكرة المريضة
عندما تتحول الفكرة إلى عقيدة , فإنها تصبح عبئا على العقل , مثبطا له , ومشوشا طريقه . والعقيدة إنما هي فكرة ثابتة .. محنّطة .. بلا روح , وبالتالي عاجزة عن التوليد والتجدد والنماء . عندما تغدو الفكرة كذلك , تتحول إلى مرض لا يكف عن التجذر والغزو , حتى يأتي على العقل كله , يستعمره , يضطهده , يكفّه , فينحرف به عن وظيفته الطبيعية . ومن لديه إلمام بعلم النفس , يدرك بوضوح , خطورة سيطرة الأفكار الثابتة على العقل والسلوك بأشكاله وألوانه كافة .
-2- الفكرة/ الصنم
يخلق العقل الفكرة , لا ليحولها إلى صنم , يعبده ليل نهار , بل لتكون منارة يستنير بضوئها , وأداة تسهل عمله , وخطوة إلى الأمام , على طريق المعرفة والعمل .
عندما تتحول الفكرة إلى صنم , تفقد القدرة على الإنجاز , وتستحوذ على الإنسان , فيغدو خادما مطيعا لها , بل عبدا لإيحاءاتها وأوامرها المقدسة , فيكرس حياته لترويجها وصيانتها وتبريرها , ويستخدم التحايل للدفاع المستميت عنها , إنها- الفكرة الثابتة- تستقر .. تستوطن . . تستحوذ على اللاوعي والوجدان , فتستمد منهما طاقات إضافية جبارة , تقاوم بواسطتها أي مسعى لإحيائها وبعثها , إنها تكره النقاش , وتمقت الأسئلة المحرجة , وتتهرب من الاستحقاقات المنطقية , التي تشكل خطرا على حالتها المتكلسة في اللاوعي والوجدان . لهذا كله تشكل الأفكار الثابتة الخطر الأكبر الذي يهدد الصيرورة الطبيعية للثقافة والحضارة الإنسانية , إنها شكل من أشكال آل" إيدز " أو السرطان الثقافي- الحضاري , الذي لا يحتمل الإهمال والتجاهل , لامناص من علاجه
-3- سلوك الفكرة المحنطة
تكمن خطورة الأفكار الثابتة , في النتائج المترتبة على مفاعيلها , فهي تجعل من أصحابها أناسا يتصفون بالتعصب والتطرف والانعزالية , ورفض الأفكار المخالفة والمختلفة , والسعي لنفيها وإقصائها بوسائل غير سلمية .
والأسباب واضحة : الأفكار الثابتة / مريضة , ضعيفة , جبانة , عاجزة عن المواجهة والحوار والوضوح , إنها تكره المنطق , تكره الحرية , تتحصن بالاستبداد والإرهاب والقداسة والإطلاق , كنوع من الدفاع السلبي ( هروب ) , وهي حالة أقرب إلى الطفولة والمراهقة الفكرية- السلوكية- الوجدانية , وتعبر عن نقص فاضح بالأهلية والمسؤولية .
وتتصف الأفكار الثابتة أيضا بالميل إلى السكون والكسل , واستسهال الجاهز من الأفكار , التي تندمج بالشخصية اندماجا عضويا , فهر يتزين ويتفاخر ويناور ويخوض بها معارك فاشلة , لأنها ليست أكثر من أسلحة صدئة عفا عليها الزمن .
تد جين ا لعقل
-1- وظيفتا العقل : للعقل وظيفتان :
- آ- سلبية , ويمارس من خلالها التلقي , أي جمع المواد الفكرية الخام وتخزينها , تمهيدا لمعالجتها , فهو في هذه الحالة أشبه بقرص ممغنط , يسجل ما يتلقاه من معلومات / حروف , كلمات , أصوات , خطوط , أشكال , ألوان , أرقام .. الخ / , وهذا ما يفعله الحاسب حينما يحفظ المعلومات ويرتبها في ذاكرته ,
- ب- إيجابية , ويمارس من خلالها المعالجة , أي التصنيع والإنتاج , ويعني ذلك إعادة تشكيل المواد , وصياغة صور جديدة منها , فهي عملية هضم واستقلاب للمواد المتوفرة المخزّنة , لتتحول بعدها إلى خلايا حية في عضوية الفكر الحي , وفي سياق هذه العملية تتم عمليات الهدم والبناء والتنقيب والغربلة والاصطفاء والتأليف والتهذيب والموازنة والاستثمار والتشكيل وصولا إلى التجديد والإبداع والخلق . وهذا ما يفعله المعالج في الحاسب أيضا , ولكن طبقا لبرمجة محددة ومحدودة مسبقا , لاطاقة له بتخطيها أو الخروج عليها ذاتيا , وهنا جوهر الفرق بينه وبين العقل الإنساني المبدع تحديدا . بقي أن نؤكد على وحدة العقل , بوظيفتيه , وسائر آليات عمله , وضرورة التوازن والتناسق والانسجام الذاتي للعقل , إذ بذلك وحسب يحقق التوازن , وحسن التدبير والتكيف مع الواقع
-2- برمجة العقل
تتم عملية برمجة العقل البشري بفعل عوامل وراثية وبيئية معقدة , ومنها : التربية- التعليم- الإعلام . إن البرمجة الجيدة هي تلك التي تؤسس العقل المبدع – الخلاق- العلمي- الموضوعي , هي تلك التي تبني نظام التفكير ومناهجه وآليات عمله . والبرمجة السيئة هي تلك التي تهمل ما سبق ذكره , وتفرض على العقل نظاما مغلقا ثابتا ومحددا وغير قابل وقادر على إنتاج وتطوير ذاته , ولا على إنتاج مالا يقبله ويجيزه النظام المحدود , الذي تتخلف آلياته عن الإنتاج الجيد , وبالتالي تعجز عن التكيف كما ينبغي مع الواقع والذات معا . وهذا الشكل من البرمجة السيئة , يصنع عقلا أقرب وأشبه ما يكون بالحاسب .
-3- العبقرية
يستطيع الإنسان العاقل – المبدع أن يتخطى برنامجه العقلي , وتلك هي العبقرية , وهو قلما يحدث , وبالتالي يتدخل بما تلقاه , ويتمرد عليه , بفضل ملكة الإبداع والخلق التي لديه , وهي محصلة الطاقة العامة للذات والنفس البشرية , خلاصتها , التي تعكس حقيقتها وطبيعتها وقوتها ومستواها وجوهرها الإنساني الواعي . ويجب أن يكون هدف المجتمع , من خلال التربية والتعليم والإعلام , إطلاق وتربية وتحرير وتنمية ملكة الإبداع , وهو مالا يحصل دائما , وبالشكل المقبول , في العديد من البلدان المتخلفة , وخصوصا غير الديمقراطية منها .
الاتباعية والإبداعية
- آ - انسجاما مع السياق المطروح , تعتبر الاتباعية نوعا من محاكاة الميراث الفكري , والدوران في فلكه , شكلا ومضمونا , ما يؤدي إلى نوع من التكرار والاجترار والاستهلاك العبثي للعقل والذات والواقع , إن مركز الخلل في الاتباعية يكمن في منطقها ومنهجها , اللذان يفضيان إلى السفسطة والعبث الفكري الذي لاطائل منه , ولا يمكنه الخروج بأي مفيد , ولا التوصل إلى أية نتائج وحقائق مفيدة , ويحصل مثل ذلك غالبا من خلال الانطلاق من مقدمات وأفكار وتصورات جاهزة ومسبقة , وراسخة في الذهن على أنها حقائق لا يرقى إليها الشك , وإننا نلمس ذلك عند كثيرين ممن يعتبرون من خيرة المثقفين والأدباء , وما على هؤلاء إلا أن يعيدوا النظر بالمنطلقات والمحفوظات فبل مناقشة القضايا المطروحة , وأعتقد أن كل شيء بحاجة إلى نقاش وإعادة نظر وبحث .
وهذه حالة من حالات العقم والمرض والانحطاط , مرت بها , وعانت منها المجتمعات , في فترات من تاريخا وحياتها , ( أوروبا القرون الوسطى مثالا ) , وبعض البلدان المتأخرة حاليا , وخصوصا منها البلدان العربية , التي تمر بمرحلة تخلف شامل , قل نظيره في العالم , ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في البرمجة السيئة للعقل , منذ الطفولة المبكرة , وحتى المراحل الأخيرة من حياة الإنسان العربي . ونستطيع الجزم بأن الحقبة العربية الراهنة , تسيطر عليها الاتباعية , بل تستحوذ عليها استحواذ المرض على المريض . وغالبا ما تسود وتزدهر الاتباعية في البيئات الاجتماعية التي تفتقر للحرية , وخصوصا الحرية الفردية
- ب - أما الإبداعية , فهي على النقيض من الاتباعية تماما , فلاتعيش حياة فكرية طفيلية , وهي تحقق التوازن والتكامل والانسجام الثقافي- الحضاري بين الماضي والحاضر والمستقبل , وتقيم علاقات صحية وسليمة مع الميراث , فلاتبقى أسيرة له , ولا تعق به , تأخذ وتفيد منه , ما يصلح للبقاء والاستمرار والحياة , وتنبذ الرث والميت المتعفن الضار , تحافظ على المحاسن , وتلفظ المساوئ , وهي تتعامل مع الموروث , تعنى بما هو حي وخلاق , تصونه , تطوره , تبني وتؤسس علية , تضيف إليه ما تجب إضافته , كل ذلك في إطار من العقلانية الخلاقة , والحيوية المشعة . إن سيطرة الإبداعية على الحياة الاجتماعية , تعبر عن حالة من الازدهار والنهضة الشاملة , نابعة من الحيوية الصحية التي توفرها مناخات الحرية , وتبني البرمجة الجيدة للعقل , وهذا ما نفتقر له جدا في بلداننا العربية , التي تنوء تحت أعباء الجهل والفقر وسائر صور التخلف , ولاسيما سيطرة العقائد الميتة والمحنطة على الحياة عموما .
تسييس ا لفكر
ما لذي يجعل الواقع الفكري مترديا ومزريا , كما هو الحال في الوسط العربي ؟ الجواب ليس بسيطا ولا سهلا , ومع ذلك أتجرأ وأقول ملخصا : إنه غياب الحرية , الذي يعني بالمقابل سيادة الإرهاب والاستبداد الفكري , ولكن لماذا ؟
يشكل الفكر وحدة عضوية كلية متفاعلة , ونظاما عاما شاملا وموجها لكل سلوك ونشاط إنساني فردي وجماعي , ومن ذلك النشاط السياسي , وهو أهم أنواع النشاط , لأنه المهيمن والمدير والمدبر للصيرورة الاجتماعية العامة . ولكل سياسة فلسفتها , فإذا كانت السياسة ديمقراطية , كان الفكر حرا , والعكس صحيح , حيث السياسة غير الديمقراطية , تخشى حرية الفكر , فتحاربها , لأن من شأنها إلحاق الضرر بالنظام غير الديمقراطي ككل , لذا تضطر لفرض أنموذجها الفكري غير العقلاني نسبيا على المجتمع والفرد , وتجند لأجل تحقيقه كل ما تملك من طاقات ووسائل تدجينية .. تحريضية .. تعبوية , لصناعة الفكر المدجن , ولاسيما من خلال التربية والتعليم والإعلام التي تحتكرها , وتستثمرها لتثبيت وصيانة نظامها الفكري اللاعقلاني .
إن النظم غير الديمقراطية تتبنى نظاما فكريا مغلقا وشموليا , تصونه وتحرسه وتفرضه على الجميع , وتقمع أي معارضة فكرية , وهذا ما يدخل المجتمع في حالة من العقم والمرض الفكري , الذي يتجسد بالاجترار والاستهلاك المعرفي , وتدهور الإنتاج والإنتاجية الثقافية إلى الحضيض , ونلمس حينئذ نوعا من الأحادية و الركود والتأسن الفكري , ما يؤدي إلى الفشل في التعاطي مع الواقع جملة وتفصيلا .
إن النظام المعرفي الذي يفتقر إلى الحرية , يفتقر إلى الحيوية , وهو من ثم نظام لاروح فيه , وبالتالي لا يملك القدرة على التخليق والتوليد , ولا يساعد على التكيف السليم مع المحيط , وأكثر من ذلك فهو نظام انعزالي , عدواني , انفعالي , وخطابه تهييجي , " دونكيشوتي " , شمولي , وغير عقلاني , ولامقنع , وتلك حالة مرضية وبائية , مستشرية في الحياة الاجتماعية الرسمية والشعبية معا , وتشل قدراتنا على الحياة الطبيعية السلسة والآمنة ,
إن التغلب على حالة الاغتراب الفكري/ المعرفي , التي تسبب لنا الألم والمعاناة والعطالة والعقم المزمن , يحتاج تضافر الجهود الواعية والمخلصة , والنوايا الحسنة , للمباشرة الجادة في تشخيصها , وصولا لمعالجتها , والشفاء منها , والخلاص من آثارها المدمرة للذات الفردية والاجتماعية , فعسى أن تستيقظ الضمائر , ونبادر إلى إصلاح البنية المعرفية المتعفنة , التي تعتبر إطارا وخلفية ومنطلقا لعصاب ثقافي/ نفسي/ متأزم , وهذا يضعنا أمام المهمة الأكثر أهمية وجوهرية , ألا وهي تحرير العقل , في إطار نشر وتعزيز واحترام الحرية , وحقوق الإنسان , وبالتالي مكافحة أشكال الإرهاب والاستبداد المعرفي كافة , ويندرج هذا الأمر ضمن إصلاح النظام الاجتماعي/ السياسي ككل .
اللاذقية /8/2/2012
08-أيار-2021
24-آذار-2012 | |
13-آذار-2012 | |
21-شباط-2012 | |
13-شباط-2012 | |
03-شباط-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |