إنها لحظة وعي، صفاء ذهني، تجعلُ جميعَ الاحتمالات ممكنة ومحط نقاش، يسألني الواقف في دربه: هل ثمة انعكاسٌ للقدر في أسمائنا؟!
وهل هناك ما يزحزحُ الروحَ عن مسارها؟!
ثمة أحداثٌ تقع، انهيارات تتكوّن، فسحاتٌ من الأمل تنمّي واقع الحياة في أسمائنا، كنتُ شديدَ الانتباه لأيّ مشهدٍ يمرّ ، تلكَ الفتاةُ في استدارة عنقها وحركة مفاجئة من يدها، ينمّ على أن شيئاً ما وقع، أتابعُ حركة يدها، ثمةَ ما يُشبه المأساة، يسألني صديقي: لماذا تصرُّ على الولوج في العمقِ ابقَ على السطح وافرح .
أُجيبه : هي ميزةُ الغرقِ في أعماق الأشياء، في حوارها، في تكهناتها، ليسَ العمقُ هدفاً إنّه حالةُ تأريخٍ لمشهدٍ شخصيٍ عليكَ تبيانهُ لتقيسَ مسافاتهِ المماثلة في شخصيتك، في الماضي والحاضر والمستقبل، وما الفرحُ إنْ لم يكُن مجرّد لحظة كشفٍ، لحظةَ عودةٍ بالذاكرة.
ما ينقصنا يا صاحبي هو إذكاءُ نارِ هذا الصفاء بحيث نضمنُ استمراره وولوجه في أرواحنا على قدر يُمكّننا من زيارة أصغر تفصيل في حيواتنا.
أواصل المشي وهو، أحدّقُ في المسارِ الآخر من الشارع، ثمّة خواءً في أبنيةٍ، نادراً ما تقولُ أشياءها، شرفاتها تستفرِغ بين لحظةٍ وأخرى.
هو يدفع باب تقلباته حيث تقف متسوّلة / إنسانة، يُعطيها بعضَ النقودِ ويقرر ألا يعود من ذات الشارع .
هل نحنُ من نعيشُ في القدر، أم أنّ القدر هو المسار المؤكد لنا، نتابعُ المشي بانعطافة واضحة حيث ينعطف كل شيء، يُخبرني أنّه رآها ، ويلتفت.
هل هي صدفة أم قدر؟ أشخاصٌ يعرفوننا، نراهُم فترتدُّ لحظةُ الصفاءِ إلى الذاكرة ، متى وأين وما إلى هنالك، تكرار الأشخاص يصفع صفاءنا، يجبرهُ على السير في مسارات هي أيضاً من قدرنا.
يقول إنها تتقصّد عدمُ اكتراثها له، و أننا يجبُ أن ننعطف بفعل بوليسي، أقولُ له : لا تحدّد الوجهة، دعنا نسيرُ، نسيرُ وحسب، دونَ أية خيارات، الخيارات تربكنا.
ثمة فسحة في الرصيف ، حيث في المكان سعة لرصف المشاهد المتكررة ، مقهى وجمهرة بشر، جمعهُم المكان في لحظة اختيار، كراسيهم أشرعة المقهى، ملاحون في دائرة ضيقة، يفردون خبز حياتهم على المارة، وأنا متشبّثاً بأي فنجان، أحاولُ أن أجتنب ما يُقرأ عليَّ حياتي، أدورُ كملعقة فيه، أتمتمُ؛ ربما حان الوقت لأصطدم بأحدهم، علَّ المسألة هي مسألة صفاء و حسب.
أنظر إليه، أبعدُ عن ذهني احتمالَ نسيانه لمرورها، أقرّ بأنّه حبٌّ دخيل، حبٌّ متطرفٌ في أبعاده، يشي بنا إلى فسحة في القلب، هي أشدّ تعقيداً من أن نقولبها في فعل عاطفي، قلوبنا مرآتنا، فيها تتجسد مشاهدنا وتنضجُ كثمرة كُتب لها أن تسقط.
سريعاً يقفز إلى ذهني سؤال : نضوجنا هل يعني سقوطنا.
أدعُ الجوابَ في وجوه المارة، في هيئاتهم، قد يخبركَ طفلٌ بحركة واحدة من جسده بأنّه يتيم، و قد تفتحُ لك فتاة بحركة منها أفق المشهد فيضمحلُّ صفاؤك و يتلاشى.
اصطدمت بأحدهم وسقطتُ، ضحكتُ لسقوطي، وضحك هو، انتشرتُ على نفسي نكاية بالمشهد.
بحركةٍ من يدها سحبتُ حضوره، كسرت ظنه، (الظن قيد اليقين)، تبادلنا التحية ومشينا، أنا – هو وهي
في المقهى حيث الكراسي أشرعةٌ مع تغيّر طفيف في الملاحين.
لرائحةِ القهوة وقعٌ مضاعفٌ في القلوب، رائحةُ تنشرُ الرغباتِ في أجسادنا، تقصفها بما استجدّ من حضور المكان، يتحدثون هو وهي.
وأنا أرسلُ صفائي إلى حيث يدركُ، بياضُ الفناجين وسواد القهوة صراعُ ألوانٍ في رغبات؛ رغباتٌ تأخذُ أيّ عورةٍ للمكان، تحيطهُ بتعليقاتٍ تأخذُ حائطَ الظن، ضحكٌ وضجيجٌ، وأنا يفترُّ صفائي، يفقدُ وعيه، أرشفُ القهوة لأعيده، وقعنا في الخيارات، ضحك – ضجيج – أنثى – قدر – خيارات، أي أمدٍ لفسحةِ الصفاء هنا، أتجذّرُ في الكرسي، أحاولُ كسرَ أيّ انتباه.
تلعثمُ الفتاةِ في حديثها ينمُّ عن ذنب ما، أو ربما خوف، إنّها الملامحُ، ضوءُ الحياة في شخوص تحملُ أسماءَهم أيقوناتُ أفعالهم، أتوضّأ في ملامحهم، أشربُهم بعينين متّقدتين صفاءً، حيثُ كلّ شيء يأخذُ شكلَ كلِّ شيء.
أنامُ بعينين مغمضتين، حيثُ الكرسيُّ والقهوة وكأسُ الماء وهو وهي وكرسيه وكرسيها، وآخرون يحملون أبعادهم في ملامحهم، كمْ أحتاجُ لقفزة ما، لحادثٍ أياً كان نوعه، ودرجة خطورته، هل الألم إلا سؤالُ الحياة؟
أتشبّث بعينيّ مغمضتين ، يلكزني هو، أعتذرُ عن لا مبالات الموقف، وأوشكُ أنْ أفضحَ سرّ صفائي .
يقولُ: كنتُ أُخبرها عنك، ألم تسمع؟ .
" لا " أجيب .
أخبرتها بأنّك تحبُّ المشاهدَ المفاجئة في الحياة، مفاجئةٌ بحيث تكسر حالة الشرود.
وهي أخبرتني بأنّها ردّة فعلٍ طبيعي للجمود المعاش.
أجيبُ: بأنّ ما يُفاجئنا يجعلنا في حالة إرباك، نقيسُ أنفسنا بعمق المشهد المفاجئ، ورويداً يأخذُ المشهدَ طبيعته ونعودُ إلى جمودنا، نحنُ سماء مشاهدنا، بحيثُ أنَّ أيَّ حوارٍ يمكنُ أنْ يقلبَ حياةَ أحدٍ ما.
يسترسلُ هو، فيما ينظر إليها: وهل الحبّ شركُ المشهد المفاجئ.
أقولُ: الحبُّ شركُ المشهد، أي مشهد، يأخذُ ما يفاجئنا، محوّلاً إيّاه إلى فعلِ زيادة أو نقصان، عاطفةٌ تبدّد أسر المشهد، تجعلُ يقيننا بأنفسنا يقينَ عاطفةٍ لا يقينَ فِكر، وأيّ حوارٍ فيه هو خسران للجهة المموّلة للحبِّ بحيثُ أيّ عاطفةٍ تريدُ الحبّ يقيناً، محكومةٌ سلفاً بجهة القلب وأيّ هدفٍ يريد.
حوارُ قلبٍ صفائي، أخذني إلى ضياعي، أعتذرُ منهم، و أغادر، أمشي لا أشعرُ بالأرض تحتي:
أنا أطير .. أطير .
ـــــــــــــــــــــــ
وائل الناصر/سوريا