وشمٌ دمشقيٌ لكلِّ الوافدين
خاص ألف
2012-10-20
المدينة مسورةُ بظلال الغرباء..
أنت..! الغريب الإضافي فيها..
تقترب من أبوابها، محاولا وضع بصمة إبهامك على جدارٍ لا يعنيك بشيء سوى أنَّ هناك مكاناً لبصمتك.
وكأنك نسيت أن إبهامك يستلقي داخل جيبك، يتحسس ثقةً خبّأتها لمعرفتك الخجولة أنك الآن وفي هذه اللحظة الأكثر ضعفاً والأكثر هشاشةً من بين كلّ الحاضرين في المدينة.
هي دمشق.. ودون أن تعلم،تبتلعك في أول دخولك، وتبدأ بهضمك يوماً وراء يوم، لتصبح جسداً يفرز ما تعتقده إبداع. مدينة تشعل فيك رأس كلّ المفكرين، وتشعر كأنها بدّلت يدك بيد كلّ الرسامين، وأخذت أصابعك مطرحاً كان لأهم الأدباء والشعراء. أنت الآن تصبح كظلٍّ مسرحيّ، مرّةً تميل يساراً، ومرّةً لا تعرف أين يقع اليمين.
تجلس على أطراف دخان سجائرك بقناعة الذي يستلقي على غيمة، وتبدأ بتلوين الهواء،تفترض أن كلّ الأنفاس موجهة إلى ذرات الهيدروجين والأوكسجين التي تطرحها من جهاز تنفسك الثقافي.
تتوالى عليك الأيام الدمشقية, فمرّةً تكتب شعرا، وفي اليوم الثاني تبدأ برسم لوحة، ثم تمرّر أصابعك وكأنك تنحت شهوة النجاح والوصول، وربما تختم أسبوعك بفكرة رواية تختصر تجربتك الثقافية والإبداعية في هذه المدينة وتقول في نفسك: (يا أخي هذه المدينة تجعل منك مثقف شامل).
تبدأ بالتقرب من كلّ الذين مرّوا بما مررت به، وتُمَتِّعٌكَ الثرثرة عن الأمجاد دون أن يعترف أحدكم للآخر بأن هذه الأمجاد متشابهة، وأنها صورة واحدة للخيبة، إلا أنّ انعكاس ظلّها مختلف بحسب توقيت قدومك وسقوط الشمس فوق رأسك.
تبدأ أيها المقيم الجديد في المدينة بالتسلل إلى كلّ الأزقة الثقافية التي لا تخلو من رائحة النبيذ،وذلك لمعرفتك الشخصية أن النبيذ يؤكد على انتماءك لجماعة الوسط الثقافي، متناسياً أنّ من صنع النبيذ داخل كأسك.. ربما رجل عجوز يرتّل آلاف القصائد الهاربة من الأوف والميجنا. وأنّ قصائدك المخمورة عن العشق، كانت تستتر قصصها تحت دوالي العنب. وأنّ أصابع النساء التي تطبعها على جدرانك، ربما أيضاً كانت تقطف عناقيد ثقافتك دون أن يعنيك من الموضوع في حال إدراكك له سوى أنه نظرة جمالية لشهواتك.في المساء..! تُفرِغ كأسكالمترع بالوهم في حمامات ذلك الزقاق الثقافي.
ثم تعود لتوازنك فتقرر أن المفرد لا يناسبك.. فتطلب كأسك الثانية كي لا تمنع نفسك من البوح بأوجاعكللأصدقاء والمحيطين بك،فيفيض شجنك وأنت تثرثر بتأثر بالغ عن هموم العامة بشكل خاص.. وأردفت لكل مفردة خاص لأن ثرثرتك تنطوي على نميمة ثقافية لئيمة.
ودون أن تدري وبشكل فطري تكون أول من يهيئ الطقس للكأس الثالثة، فهنا تماماً ستبدأ باستجرارحزنك، تصفع روحك كفّأ دون أن ينتبه الآخرون، وتنتفض بعفوية لتبدأ حديثك عن أحلامك الضائعة، تخبرهم عن معاناتك الوجودية، تسرد لهم كيف تتأرجح مرات كثيرة في العدم الإنساني، وتقدم أساب حزنك كوجبة العشاء.
بعد العشاء.. ستنهمر عليهم بقصيدة لك،على سبيل المديح غير المباشر لنفسك،ستتورد إن قال لك أحدهم أنك شاعر جميل.. ستهز رأسك مؤكدا على امتطاءك صهوة اللغة، وتبشر الموجودين بقدوم شاعر فذ إلى هذا العالم الضحل، وتطمئن لفكرة أنّ السُكْرُ قد يبرر بعض جملك العاثرة. فتزيد ثقتك الموضوعة في جيبك وتبدأ ملابسك بالانتفاخ علماً أنّ جسدك لم يتحرك من على الكرسي.
دمشق السحر.. دمشق العطر والياسمين.. شوارعها قناديلها.. أزقتها.. قصورها.. التاريخ الذي عبر فيها فمكث.. كل ذلك يمر على لسانك وكأنك أكثر من اختبر هذه المدينة وأكثر من اختبرته بدورها.
تنتقد وتؤيد.. تُعارض وتوافق.. تُعجب وتشمئز.. تُناقش.. وترمي ما على الطاولة بوجه من كفر بالمعتقد الثقافي أمامك.. كل ذلك لتزيد من تبرّجك الثقافي، ولتقنع نفسك بأنك شخص يستحق الوجود في مدينة مثل دمشق.
ربما في زحمة الترف الثقافي نسيت أن دمشق تتأثر بكل من عبرها ويعبرها.. وأنها جسد يتألم ويهوى ويفشل ويسقط وينتفض ويرقص وينهض.
قد تبتلعنا هذه المدينة حين نكون بمثل هذه الهشاشة فتفرزنا كما الفضلات.. إلا أنها تصبح رحما آخرا حين نخطو نحوها دون زيف..
قناديل معلقة تزف كل الوافدين في عرس أشبه باحتفال اسطوري.
ندخل دمشق.. نشتمُّ شوارعها.. بيوتها.. جدران قلعتها.. ونركب الموجة نحو الحلم.. وننسى أنها كانت الأكثر أنوثة وغواية وعفّة.. الأكثر انتباهاً لتفاصيلنا كبشر عابرين قبل أن نكون أدباء أو كُتّاب أو حفنة من الكائنات المثقفة.
08-أيار-2021
12-كانون الثاني-2014 | |
16-كانون الأول-2012 | |
24-تشرين الثاني-2012 | |
18-تشرين الثاني-2012 | |
11-تشرين الثاني-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |