ويسألني جبران عنها
خاص ألف
2012-11-11
تخرج من باب الجابية الذي أضاع مفتاح بابه، لتدخل إلى شارع البدوي.. شارع ملّت أزقته الغبار المتراكم على منازله، منازل آيلة للسقوط، ربما تنتظر سقوط الحكم لتسقط معها.
السيارة التي كنت استقلها عبرت بي إلى شارع خالد بن الوليد.. أشعرني الطريق بغربة لا مثيل لها.. محلات مقفلة.. بيوت بلا إنارة.. جدران كئيبة.. حزن أخرس.. وبرد أغلق كفّه على المارين صدفة.
خرجنا باتجاه باب شرقي، ببطء سارت دقات قلبي حين بدأت أسمع صوت البشر وضحكاتهم وقرقعة الكؤوس. الهواء جاف يا صديقي.. والكهرباء انقطعت فجأة.
في واقع الأمر كان باب شرقي ينحني وحيدا، لم يكن من نديم ليرفع من انحنائه، ما سمعته من ضحكات وأصوات الأنخاب ما كان إلا رجع الصدى للذاكرة التي كادت أن تفقد عناوينها.. ذاكرة تعجّ بالأضواء والبشر والضحكات واحتكاك أجساد النائمين على جدران المقاهي وأغاني وديع الصافي وفيروز.
يالل الموت الذي فاح بالأزقة.. دمشق لم يعد يعرّش على ظلّها الياسمين.. وربما هي على وشك أن تفقد رائحة المطر.
ضحكت.. ضحكت على كل القصائد التي مجّدت أسوار دمشق وياسمينها.. ضحكت على الخائبين الذين رسموا مشربياتها وأزقتها، على السائحين الذين فتحوا أفواههم وأحداقهم ليلتقطوا دهشتها،على مآذنها، كنائسها، دور ثقافتها، ضحكت على أبو خليل القباني، وقهوة النوفرة، والحكواتي،وعيّاش الذي يبيع الشاورما في ميدانها، على الشعراء الذين تسكعوا خلف نوافذها، على الهاربين إليها، والخارجين عنها، على المُحبَطين في ثنايا جلدها، على القارئين تلاوة العشق في عتمتها.
ضحكت على كلّ شيء صادفني.. وبقيت أضحك حتى بكيت.
عبرنا طريق المطار المؤدي إلى جرمانا، الظلام رفيقٌ يسير إلى جوارنا، يلكزنا، فننتبه إلى عمانا.
تحدث سائق التاكسي بضعة جمل قائلا: "بتصديقي يا آنسة صرت خاف طلّع معي شب أو رجال..؟؟ الله بيعلم بجوز يكون أمن أو بجوز يكون من الجيش الحر .. ما عاد تعرفي ساعة الغفلة إيمت ىبتجي".
(جرمانا ترحب بكم)
هذا العنوان الذي استقبلنا على مدخل مدينة جرمانا، كان وحيداً، يُشرع عباءته الفارغة للمارين بعيداً عنها،ثم عُدتُ للضحك فما من أحد وقف ليستقبلنا.
المدينة الصغيرة كانت تحاول الاختباء عن الحزن في ظلمة متعمدة من وزارة الكهرباء، كانت تفشل في رسم فرحها حين يخطوا أحدنا نحوها.
صرت أتلفّت إلى الاتجاهين المتعاكسين في السيرلربما ألمح نبضاّ للمدينة.. وأيضاً ضحكت حين مررنا ببار يعلو صوت الموسيقى منه.. لكن!! لا زبائن فيه يا صديقي.. الكؤوس وحيدة، والخمرة تُعاقرالوحشة.
توقفت عند مفرق البيت.. دخلت المحل الصغير قبالته.. اشتريت بعض الشموع وصعدت درجات البناء حيث أقطن.. لا تستغرب إن قلت لك أنّ الخوف كان حاضراً حين انعكس ظلّي على جدار يسند الدرج.. ظننت أن أحدهم يلاحقني .. هرولت كطفلة تريد أن ترمي خوفها في حضن أمها، ورحت أسأل نفسي بتقطع الهواء في صدري..
من يتبعني..؟
من يريد قتلي..؟
من ذاك الذي سيمد سكينه إلى خاصرتي فيطعنني..؟
أيحمل الأصفاد في يديه..؟
بكيت.. لفكرة أن ظلك قد يعتقلك..
المفتاح لا يريد الدخول إلى قفله.. ربما ارتجاف يدي هو السبب.. والخوف يعضّ ساقيّ ويخنق رئتي
دخلت البيت، أغلقت الباب خلفي، تلمّست العتمة، وتنفست الأمان الكاذب.
توجهت إلى آلة التسجيل التي تعمل على البطارية، وأدرت إبرتها.. أدرتها باتجاه الشرق.. وسمعت نقرات العود رفعت جسدي المرتجف.. ورحت أرقص بهذيان وأصرخ:
هذه دمشق يا صديقي.. هذه هي المدينة التي تشتاق لها..
أتسأل عن دمشق..؟
أتسأل عن عمرك القديم فيها..؟
هي تهذي.. مثلنا.. تعض على شفاه قهرنا.. وتحك فرحها بحجرها علّه يشتعل كما السابق..
لا تسأل يا صديقي.. فصوتي لن يصل لك، فقد ارتفع عليه صوت الرصاص.. والمدافع.. والطائرات التي تحوم فوق أوتاره.
لا تسأل يا صديقي.. فالإجابة أصابها الخرس.. وما من صوت يئن في هذا العالم سوى صوت امرأة مزّقت من كثرة الحزن ثوبها.. امرأة منذ زمن نسينا أن نمشط لها جدائلها.. أن ندللها حين نسميها دمشق.
08-أيار-2021
12-كانون الثاني-2014 | |
16-كانون الأول-2012 | |
24-تشرين الثاني-2012 | |
18-تشرين الثاني-2012 | |
11-تشرين الثاني-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |