نقطة.. انتهى
خاص ألف
2012-11-04
في صباح 25/ 8/2012 استيقظتُ أتلفتُ حولي باحثةً عن رائحة البُنّ المحمّص التي فاحت في أرجاء المنزل.
قبل هذا التاريخ، كانت الروائح باردة، جافة، وكثيراً من الأحيان كانت تخدش الهواء قبل أن أتنفسها.
وكأن أصابعي التي راحت تمشي على رؤوسها، صدّقت الرائحة، فسحبتني إلى المطبخ..
خَطَوتُ حافية إلى الصالة الصغيرة، جلستُ أنتظر دخولك بطقس البنّ الذي اعتدنا عليه كل صباح..
جافة هي الإشراقات حين لا ترطبها ببخار قهوتك..
ليس زمناً كافيا تلك الدقائق الصباحية التي مرّت لتعلمني أنك لم تعد هنا. على الزمان أن يجمع نفسه ويطرق الباب ليخبرني على مرِّ السنين أنك تسللت خارج الحياة دون قصدٍ منك..
مَشيتَ.. فوشَيتَ للفرح أن يتسلل معك.
وكعادتي.. رحتُ أفرش لك بياض الورق وأُجهِد نفسي في إقناع الحرف أن يجلس على مطلع السطر.
منذ غيابك.. صارت الأحرف تجلس إلى جواري، فنحدّق هي وأنا بالورق المتروك تحت غباره.
يلكزني حرف اللام.. أحرك يدي.. فيتراجع إلى جلوسه.. أحدّق بالأبجدية التي اتكأت على احتمال أن أَعْتِقَها من مهمة الولوج في صفحةٍ ستصبح بعد قليل مرثيةً عنك.
نضحك أنا والحرف.. نضحك بسخريةٍ من العجز الذي أصابنا.
فمنذ أن طلّ موتك علينا.. ونحن نُجَرِّبُ كتابة النّعوات ونفشل، نُجَرِّبُ كتابة المراثي ونفشل، نُجَرِّبُ رصف الكلام لنخبر الآخرين عنك ونفشل.
نفشل في المدح والحزن ووصف القهر، نفشل في اختيار الكلمة التي تليق بحياتك قبل موتك.
وها نحن الآن نفشل في عدّ التفاصيل الصغيرة.
تلك التفاصيل التي رُحنا نعتني بها لقناعتنا أنها تبقينا على قيد الحياة في موجة هذا الحزن المخيِّم على البلاد.
جَمَعنَا صور الشهداء قبل موتهم وهم يضحكون، احتفظنا بجُمل أصدقاء لنا تم اعتقالهم. وزّعنا الأغاني التي كان يحبها عدد من الأصدقاء المختطفين ورحنا نرددها كي لا ننسى غيابهم ونفكر بالاحتمال الأبيض كهذه الورقة. كتبنا خِلسة على جدار أحد الشوارع (انتبه.. ممنوع المرورـ تصليحات طرقية) لنخفي بعض الأصدقاء في الأزقة المتعبة مثلهم بالحزن.
احتفلنا بزواج الأصدقاء المختلفين سياسياً.. وباركنا بانفصال القطيعة عن اجتماعاتنا.
التقطنا الرصاصات الفارغة من الطرقات ورحنا نُلصقها على الجدار الفارغ في المنزل. ضحكنا حين قررنا كتابة كلمة "وطن".
اجتمع الرصاص فصار حروفاً متلاصقة نافرة يدفعها الجدار للأمام وكأنه يلفظ كلمته فيقول "وطن".
حين أنهينا كتابة الوطن.. كانت النقطة فوق النون تنقصنا..
قُلتَ حينها: (بدون النقطة سيصير الوطن "وطى").
لملمنا ضحكاتنا وغادرنا إلى حيث يغفو البنّ في برودته.. فأيقظنا من تحته النار.
اليوم.. وفي هذه الساعة تحديداً نحدّق أنا والأحرف في الرصاصة التي قتلتك.. الرصاصة التي كان يجب أن تصير نقطة النون في الوطن، دون أن ننتبه صارت نقطة انتهى.
غداً.. سيخفي التاريخ أنّ الأوطان تتشكل بحفنة من الرصاص والكثير من المقابر، وسيملي علينا فضائل القتلة، لنصير كما النقطة في هذا العالم نصرخ انتهى.. فلا أحد يسمعنا.
08-أيار-2021
12-كانون الثاني-2014 | |
16-كانون الأول-2012 | |
24-تشرين الثاني-2012 | |
18-تشرين الثاني-2012 | |
11-تشرين الثاني-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |